سواء أنتجنا الطاقة أو استوردناها، تبدو الفاتورة باهظة، وبشكل لا يبيح السكوت عن هدر كيلو واط واحد، مع ذلك نقف حاليا على أرقام هدر وفاقد «تكسر ظهر» أي خزينة مهما بلغت إمكانياتها، ورغم هذا بقيت المعالجات الجارية لمشكلة الهدر والفاقد بعيدة عن جوهر المشكلة، فالأرقام الراشحة من القطاع تؤكد أن الفجوة القائمة بين ما ننتج وما نستهلك تستوجب الاستمرار في الاستجرار من الخارج، رغم خطط تطوير طاقات الإنتاج والتوليد والمنفذ منها على الأرض.
كل ذلك لم يحفز إجراءات استثنائية باتجاه مكافحة الخلل الذي يتجلى بأرقام فاقد يقال إنها وصلت إلى %30 وبعضهم يتحدث عن 37%، فيما المسموح به فنيا بالمقاييس العالمية لا يتجاوز 11%.
هدر مع سبق إصرار
إذن نحن نهدر ونستنزف أنفسنا بشكل يشبه جلد الذات، فحول دمشق ما يسمى بحزام المخالفات أو السكن العشوائي، الظاهرة التي تمد لسانها سخرية من الجميع، وما يزيد عن 38 منطقة مخالفات هي شواهد على ثقافة الاستنزاف التي انتعشت في ظل تراجع أداء المعنيين بالضبط والمراقبة.
هنا في مناطق كهذه.. ترجمة ساخرة لأوضح أشكال الخلل، والتصدع في تعاطي مؤسسات البنى التحتية مع أعمالها، بعد أن تحولت لقنوات تسريب لمقدرات خزينة الدولة، ففي مناطق كهذه ينتعش الفاقد الكهربائي والاستجرار غير المشروع والاعتداء على الشبكات، وتحطيم المرافق وضياع المقدرات التي تتخذ اشكالا عدة كتسخين المياه يتم عبر وشيعة «عملاقة» في خزان بسعة 1 إلى 2 متر مكعب على أسطح المنازل، والتدفئة من خلال مدافئ كهربائية موزعة على زوايا غرف المنزل سواء كان عددها غرفة أو عشرة، العدادات إن وجدت لا تتحرك أقراصها إلا مرة في السنة.
مشاهد استنزاف مدهشة مع أن الاستهلاك منزلي في معظمه، وقد لا يشكل حجم الاستنزاف شيئا هنا مقابل ما يهدره الصناعيون من طاقة وما يستجرونه «عنوة» بشكل غير مشروع.
كل هذه الخسارة!
تؤكد التقارير الصادرة عن وزارة الكهرباء ومؤسسة نقل وتوزيع الطاقة في إحصاءات سابقة لم يتخذ أي إجراء احترازي بعدها -أن الفاقد وصل من حيث النسبة إلى أكثر من 25% من إجمالي التيار المنقول عبر شبكات المؤسسة، 15% فاقد فني و10% استجرار غير مشروع، رغم أن أرقاما كهذه مشكوك بها، لأن الفاقد التجاري «استجرار غير مشروع» هو أكثر من ذلك بكثير.
ففي منطقة السيدة زينب في ريف دمشق وحدها، بلغ حجم التيار المرسل إلى تلك المنطقة 60%، ولنقس على ذلك في معظم مناطق المخالفات بل قد تزيد النسبة في مناطق مشهورة بالسطو على التيار.
وإذا اعتبرنا ـ حسب أرقام الوزارة -أن حاجة الاستهلاك أي ما ينتج محليا وما يستورد بحدود 8 آلاف ميغاواط، وهذا يعني انه إذا كان حجم الفاقد 25% فإن حوالي 2000 ميغاوط هو فاقد مهدور.
وإن قدرنا قيمتها بالأسعار التي تدفع لقاء استيراد ما سنستورده من الجيران يعني أننا نهدر ما قيمته من 25 الى30 مليار ليرة سنويا، وهو رقم كفيل بزيادة 25% على رواتب وأجور العاملين في الدولة التي تعد بها الحكومة حاليا.
لذلك فإن أرقام الفاقد والهدر نعتقدها تستحق تحركا ما أو إجراء يعيد الأمور إلى نصابها، لكن حتى الآن تقول المؤشرات ان المعنيين غير قادرين على الاضطلاع بهذه المهمة ونقصد مؤسسة توزيع الطاقة الكهربائية والشركات التابعة لها.
مع أن معالجة الفاقد الناتج عن الاستجرار غير المشروع ليست بالأحجية، وكذلك معالجة الفاقد الفني في الشبكات ممكنة من خلال إنشاء محطات توليد صغيرة مستقبلا، قريبة من التجمعات السكنية، وهذا ما يجري فعله والتخطيط له في معظم دول العالم التي تحاول اختصار كميات الفاقد في شبكات نقل التيار.
أخطر وأخطر
ليست مناطق السكن العشوائي فحسب، بل اللصوصية الحقيقية تظهر وباحتراف عند بعض أصحاب المنشآت والمعامل التي لم يكفها التهرب من دفع الضرائب والرسوم وسياسة دعم المشتقات النفطية والكهرباء الذي تحصل عليه من الحكومة.
وإن كنا في حالة السكن العشوائي نعذر أحيانا مــن يستجر خلسة لضيق ذات اليد، فبماذا نعذر صاحب معمل عملاق يعتبر سرقة التيار إحدى وسائل الربح، ومن يعلم ربما يكون قد حسب حسابها في دراسة الجدوى الاقتصادية للمشروع قبل انطلاقه!
من يصدق أن 40 منشأة كبيرة في دمشق وريفها كانت حصيلة مخالفات أحد الأعوام، وهذا ما تم ضبطه لكن بكل تأكيد ما بطن أعظم.
باختصار مستثمرونا أو 40 منهم على ذمة وزارة الكهرباء «حرامية» وما بقي لا نــضعه «على ذمتنا».
ثقافة الاعتداء والاستجرار
الاعتداء على الشبكات والاستجرار غير المشروع للتيار الكهربائي، غدا ثقافة لدينا في المنازل والمنشآت على حد سواء، والسبب ليس تراخي موظفي مؤسسات وشركات الكهرباء بل تواطؤهم، وأحيانا تحفيزهم وتحريضهم لكل من لم يفكر يوما بسرقة التيار على فعل ذلك وكل شيء بثمن. في مناطق المخالفات التي نتحدث عنها ذاتها، يرسل عامل الشبكات أو العدادات الأخبار لسكان الحي من حوله، يعرض خدماته المتمثلة بفك العداد، وشد برغي القرص المتحرك، بحيث لا يتحرك الأخير إلا بعد حمولة كبيرة، وهذا يعني تقليص ما يظهر على العداد من أرقام الاستهلاك، حتى أدنى حد ممكن. وبالتالي يستهلك زبائن هؤلاء المرتكبين من الموظفين آلاف الكيلو واط ويدفعون ثمن العشرات فقط، أي خسر الجميع وربح السارق والمسروق له فقط. أما المعامل والمصانع فلها حكاية أخرى، إذ عندما ترتفع فاتورة الاستهلاك بعد تراكم لأشهر أو سنوات، بعد تحييد قارئ العدادات بالترغيب غالبا أو الترهيب أحيانا، يعمد صاحب المنشأة إلى حرق المحولة الخاصة بمعمله ثم يبلغ شركة الكهرباء بذلك، وعندها يلجأ الموظف إلى تخمين الاستهلاك وتغريم «الحارق» بمحولة جديدة. المحولة بـ 750 ألف ليرة سورية، ويكتفي موظف الكهرباء بتكليف صاحب العلاقة بحوالى 500 ألف أو مليون ليرة كأقصى حد، مقابل 500 ألف ليرة «بخشيش» بينما تكون قيمة الفاتورة، فيما لو لم تحرق المحولة أكثر من 5 أو 6 ملايين ليرة، والمحصلة أن المستثمر «سارق الكهرب» ربح 3 أو 4 ملايين ليرة إذن حاميها حراميها، وعندما نصل إلى إسقاط ميداني لمقولة كهذه يعني أننا في ذروة المشكلة أو الأزمة، إذ يتحول طرفا المعادلة إلى طرف واحد، ليصبح الطرف الآخر خاويا.
موظف الكهرباء يبدو مرتكبا أكثر من المشترك المعتدي على الشبكة. لأنه إما يشجع مقابل أجر، أو يسهل بأجر أكبر، أو يغض الطرف ولكل تجاوز «فديته»، وإلا بماذا نفسر الحبال والأسلاك المعلقة على الشبكات على مرأى موظفي المصلحة ولا أحد يسأل!، وبماذا نفسر أن يعيد موظف التركيبات أرقام استهلاك العداد إلى الوراء مقابل نصف قيمة الاستهلاك الراجع؟!
المواطن يسرق، وموظف الكهرباء يسهل، والعنوان العريض هنا «لا رقيب ولا حسيب».
لقد اختلطت الاعتبارات وتداخلت أطراف المعادلة وتشابكت، وبدت النتائج على شكل متاهة لن يحلها المواطن ولا موظف الكهرباء (المواطن أيضا).
المسألة باتت بحاجة لتركيب نوع من العدادات غير قابل للتلاعب، ومفتشي شبكات برواتب جيدة تغنيهم عن البحث في استثمار تجاوزات المشترك، وتشريع قاس رادع بغرامات باهظة، وإلا فنحن أمام متوالية خسارة نعرف بدايتها لكننا غير قادرين على التكهن بنهاياتها وقد لا تنتهي.