سيطرت القوات التركية والجيش الحر على مدينة عفرين بعد عملية عسكرية واسعة انطلقت قبل شهرين. وهذا تطور عسكري بارز وإحدى معارك ونقاط التحول في مجريات الحرب السورية، تضاف الى عناوين ومعارك أخرى أبرزها حلب والقلمون ودير الزور والرقة، والآن عفرين والغوطة الشرقية، ولاحقا درعا وإدلب. ماذا يعني سقوط عفرين وماذا بعدها؟!
1 - «السيطرة على عفرين» في سورية مثل سقوط كركوك في العراق، يوجه ضربة قاصمة للمشروع الكردي الذي كان في العراق وصل الى مرحلة متقدمة وتوقف عند عتبة الاستفتاء للاستقلال، وكان في سورية أنجز مرحلة الانطلاق وبدأ ينمو ويتبلور في «كيان ذاتي» مفتوح على «أفق فيدرالي». ومرة جديدة تؤكد التجارب والوقائع أن الأكراد هم دوما ضحية «لعبة الأمم»، وأن تخوفهم من حدوث تفاهمات وصفقات على حسابهم في محله. وهكذا فإن الأكراد عندما حشرتهم العملية التركية بين خيار الاستسلام أو اللجوء المتأخر الى النظام السوري، اختاروا النظام الذي حاول ولم يكمل ما بدأه في هذا الاتجاه. فقد وجد نفسه بدوره محشورا بين تفاهمات روسية تركية من جهة، وأمام خطر الوقوع في مواجهة مباشرة مع الجيش التركي الذي لم يتردد في توجيه إنذارات وإشارات وفي ضرب الإمدادات التي تسلكها قوات موالية للنظام في طريقها الى عفرين.
وإذا كان الخطر الكردي مشتركا لحكومات تركيا وإيران والعراق وسورية، وهذه الدول تتناسى خلافاتها البينية عند الوصول لمواجهة طموحات الأكراد القومية فيها، فإن السياسة الأميركية تظل ضبابية وخاضعة للتعديل وقابلة للتراجع رغم قوة الرهان الأميركي على الورقة الكردية في سورية. وكان واضحا منذ البداية، أن معركة عفرين انطلقت بضوء أخضر روسي، وأميركي لحسابات واعتبارات كثيرة. فالولايات المتحدة قلقة من التقارب التركي - الروسي الكبير، حيث تنتظر موسكو انفجار العلاقة بين واشنطن وأنقرة وتقويض حلف الأطلسي. كما أن الولايات المتحدة أعادت ترتيب أولوياتها في سورية لتصبح مواجهة إيران على رأس تلك الأولويات. وفي هذا المضمار لا يقدم الأكراد كقوة عسكرية خدمات كبيرة وليس لهم دور أساسي كما كان الحال في محاربة «داعش». فكانت النتيجة أن تخلى الأميركيون جزئيا عن الأكراد وأن تلقى هؤلاء الصدمة والخيبة الثانية في عفرين بعد كركوك.
2 - سقوط عفرين يعني ميدانيا في «الجغرافيا العسكرية»، ضرب مشروع الكيان الكردي على الحدود السورية التركية وقطع أوصاله وتواصله الجغرافي. فمنذ إعلان الأكراد عام 2014 نيتهم إقامة إقليم كردي يتمتع بحكم ذاتي في شمال سورية، حدد أردوغان هدفا رئيسيا وهو منع ربط عفرين جغرافيا بباقي المدن الكردية وإنهاء السيطرة الكردية على عفرين التي تحقق تواصلا جغرافيا لكل المناطق الحدودية الواقعة بين مدينة جرابلس غرب الفرات والبحر المتوسط.
3 - فتح ملف «منبج» من قبل تركيا التي ستصعد ضغوطها على واشنطن لتنفيذ تعهدها بإخراج الوحدات الكردية من منبج الى شرق الفرات طمأنة لها بزوال خطر احتمال قيام كيان كردي على حدودها الجنوبية. فإذا سيطر الجيش التركي على مدينة منبج وريفها يكون قد أحبط بشكل كامل هذا المشروع، ذلك أن مثلت منبج بموقعها الجغرافي وكونها أكبر كتلة ديموغرافية متنوعة، هي عقبة أمام المشروع الانفصالي ويمكنها ان تكون جسرا يربط بين القطاعات الثلاثة لمشروع الأقلية الكردية، الجزيرة وعين العرب وعفرين، حيث يتصل قطاعا الجزيرة وعين العرب، بعد سيطرة الأكراد على الشريط الحدودي مع تركيا كاملا، ويبقى الجيب ما بين ضفة الفرات الغربية وعفرين، والذي يبدأ بمنبج التي سيطروا عليها قبل عامين، وجرابلس شمالها، وهي بيد الفصائل المعارضة مرورا بالباب، التي تسيطر عليها اليوم قوات المعارضة السورية ايضا بعد طرد تنظيم «داعش» بدعم تركي دولي، وصولا حتى أعزاز التي تسيطر عليها أيضا قوات الجيش الحر كذلك. وتقع منبج في قلب المنطقة التي يريد بعض أكراد سورية إقامة حكم ذاتي فيها مبدئيا، وهذا ما يفسر الإصرار التركي على استعادتها لأهلها من العرب والتركمان والأكراد والشركس بعد إخراج تنظيم «داعش» من الباب خلال عملية درع الفرات قبل عامين، فقد كانت عملية درع الفرات التركية نقطة تحول في الحرب السورية.
4 - استكمال عملية الحسم العسكري في الغوطة الشرقية وفي إطار معادلة أو صفقة «الغوطة مقابل عفرين». وقد سيطر الجيش السوري حتى الآن على 80% من هذه المنطقة وقسمها الى ثلاثة مربعات منفصلة، وبعد الغوطة، يتجه النظام السوري الى فتح معركة درعا وريفها لتكتمل حلقة السيطرة على محيط دمشق الكبرى وتأمين سورية المفيدة. إن سيطرة تركيا على عفرين ليست مجانية وإنما تترتب عليها أثمان ميدانية وسياسية: على الأرض، سيكون على تركيا أن تغض النظر عن عملية إسقاط الغوطة الشرقية بعدما نأت بنفسها عن كل الضجة الدولية بشأن انتهاكات لحقوق الإنسان ومجازر بحق المدنيين. ولاحقا ستكون تركيا أمام حتمية فتح ملف إدلب لتنفيذ تعهداتها السابقة لروسيا وإيران بشأن تنظيف هذه المدينة وريفها من عناصر هيئة تحرير الشام («النصرة» سابقا) على غرار ما فعلته في مدينة الباب التي أصبحت نظيفة من عناصر «داعش».
5 - تعويم وتفعيل مسار الأستانة رغم تداعيات الوضع الميداني وانهيار اتفاقيات وقف إطلاق النار في بعض مناطق خفض التصعيد، وأيضا الاتفاق على آليات جديدة لدفع التسوية السياسية في سورية.
6 - يبقى أخيرا، التعديل الذي سيطرأ على الأجندة العسكرية الكردية بعد هذا «الحدث المفصلي». فالأكراد لم تعد لديهم فرصة التقدم وتحصيل مكاسب، ولم يعد أمامهم إلا الحفاظ على ما تبقى واتباع سياسة «الحد من الخسائر».