أحمد عفيفي
قرار رئيــــــس الجمهورية رقم 23 مليون مواطن مصري لسنة 64: قرر رئيس الجمهورية العربية المتحدة جمال عبدالناصر ان يجتمع كل من كوكب الشرق ام كلثوم والموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب في اغنية تشدو بها الست ويضع موسيقاها عبدالوهاب في اقرب وقت ممكن.
بالطبع لم يكن القرار بهذه الصيغة الرسمية، وبالطبع ايضا لم يكن قرارا مكتوبا، لكنه في الاول والاخر رغبة في صيغة قرار لايملك احد ان يتجاهله.
فقد صدر القرار وكانت... (انت عمري).
مصادفة عجيبة ان شهر مايو، هو الشهر الذي ولدت فيه ام كلثوم وهو نفس الشهر الذي رحل فيه عبدالوهاب، ولأنني عاشق للاثنين اردت ان اجمع بينهما في هذه الكلمات تكريما للست في يوم مولدها وتخليدا للاستاذ في ذكرى وفاته.
ام كلثوم وعبدالوهاب.. قامتان في عالم الفن وقصة لقاء تترجم رحلة نجاح.. لقاء تأخر كثيرا، ولا أحد يعرف سببا وجيها لذلك الامر، فكل منهما عملاق وله مكانته وقيمته المتفردة.
ام كلثوم تشدو لموسيقيين عباقرة.. السنباطي والقصبجي وزكريا احمد.. لكن اين عبدالوهاب في هذه القائمة؟ والموسيقار الكبير مبدع كمطرب يغني لنفسه وبألحانه ويشدو كبار المطربين بروعة موسيقاه.. عبدالحليم وفايزة احمد ووردة ونجاة.. لكن اين ام كلثوم في هذه القائمة؟
30 سنة وربما اكثر والعملاقان لا يلتقيان وكل منهما يعرف قيمة الآخر، لكن كل منهما ايضا يعتز بنفسه وبموهبته ولا يريد ان يكون البادئ في ابداء الرغبة.
لو سألت ام كلثوم عن عبدالوهاب لقالت دون تفكير: عبقري موسيقى.. ولو سألت عبدالوهاب عن ام كلثوم لرد دون تفكير ايضا: فنانة عظيمة خارج حدود المنافسة.. عبدالوهاب يسمع «هجرتك» للست ويتمايل انبهارا بالصوت وباللحن المتفرد للسنباطي وام كلثوم تسمع «لا تكذبي» بصوت وموسيقى عبدالوهاب فتتمنى لو غنت له وضمته الى قائمة مبدعيها.
يا سبحان الله، وكأنه حب من نوع غريب.. اثنان يعشقان بعضهما وكل منهما يعتز بنفسه أيما اعتزاز ولا يريد ان يكون البادئ بالإفصاح عن مشاعره.
هذا بالضبط ما يترجم حالة الابتعاد الذي طال بين ام كلثوم وعبدالوهاب حتى جمع بينهما قرار جمهوري لا يملك اي منهما ـ على عظمته وقدره وقيمته ـ ان يقول لا.
فقد كان جمال عبدالناصر يعشق ام كلثوم ويحب ايضاً عبدالوهاب، فجاء بهما في استراحة احدى حفلات الثورة وسأل الاثنين: لماذا لا تلتقيان في عمل واحد اظنه سيكون عبقريا؟.. ردت ام كلثوم بثقة: ان شاء الله ياريس وقال عبدالوهاب بتمني: ده شرف كبير لي.
لكن عبدالناصر لم يعجبه الرد واصدر مازحا ـ لكن في صيغة امر ـ قرارا فنيا بأغنية يلحنها عبدالوهاب وتغنيها ام كلثوم.
اذن لا تراجع ولا مجال للمساومة.. قرار جمهوري.. من يجرؤ على رفضه؟
وكان هذا القرار الجمهوري هو بداية الخيط الذي استمر لسنوات مزهرة ونسج لوحة فنية بديعة بدأت بـ «انت عمري» التي كتبها الشاعر المبدع احمد شفيق كامل.
امسك عبدالوهاب بكلمات الاغنية واسمعها لأم كلثوم عبر الهاتف:
رجعوني عينيك لأيامي اللي راحوا
علموني اندم على الماضي وجراحه
اللي شفته قبل ماتشوفك عينيا
عمر ضايع يحسبوه ازاي عليا
وردد عبدالوهاب الكلمات وكأنه يغازل الست ويصالحها بعد تباعد لم يسبقه اقتراب طيلة 30 سنة.
ووضع عبدالوهاب اللحن وكلما انهى مقطعا اسمعه لأم كلثوم التي كانت تضع يدها على قلبها من بهجة اللحن الراقص الذي ظنت انها كبرت عليه ويليق بشادية او وردة او نجاة، لكن حلاوة اللحن جذبتها لتخوض التجربة وليعد صوتها بموسيقى عبدالوهاب عشر سنوات للوراء، وكأنها استردت شبابها، وراحت تشدو وكأنها تغازله:
هات عينيك تسرح في دنيتهم عينيا
هات ايديك ترتاح للمستهم ايديا
ياحبيبي تعالى وكفاية اللي فاتنا
هو فاتنا ياحبيب الروح شوية.
ونجحت «انت عمري» ومن بعدها تعددت اللقاءات.. انت الحب.. امل حياتي.. فكروني.. دارت الايام.. ليلة حب.. أغداً القاك.. هذه ليلتي، وكلها اغان تغلفها الرقة وحيوية الشباب ووهج الحب في بداياته.
وكانت ام كلثوم رغم شعبيتها الجارفة في العالم العربي لا تغني ـ دون عمد ـ الا لشعراء وكتاب اغاني مصريين، غنت فقط «ثورة الشك» للأمير السعودي عبدالله الفيصل الذي لم يترك في حياته حفلا لها الا وحضره، وغنت ايضا «اراك عصي الدمع» لأبي فراس الحمداني.
وتذكرت ام كلثوم هذه القصيدة وقالت لعبدالوهاب: حنيت لغناء القصائد
فرد قائلا: اغدا القاك
لم تفطن الست وظنته يسأل مجرد سؤال فقالت له: انت تيجي في اي وقت.. البيت بيتك.
ضحك عبدالوهاب وقال: لا ياست الكل.. دي قصيدة للهادي ادم الشاعر السوداني.. كلماتها تحفة وستدهشك:
اغدا القاك
ياخوف فؤادي من غدي
يالا شوقي واحتراقي في انتظار الموعد
اه كم اخشى غدي هذا
وارجوه اقترابا
كنت استدنيه لكن
هبته لما اهاب
وأهلت فرحة القرب
به حين استجاب
هكذا احتمل العمر
نعيما وعذابا
مهجة حارة وقلبا
مسه الشوق فذاب.
ما أن انتهى عبدالوهاب وهو يشدو غناء ولحنا حتى ذابت ام كلثوم من عذوبة الكلمات ووجعها، وكانت «اغدا القاك» وكأنه (فتح نفسها) على الغناء لشعراء عرب افذاذ، فبعد قصيدة الهادي ادم لحن لها (هذه ليلتي) للمبدع الملهم الشاعر اللبناني جورج جرداق:
وفي مقطع من القصيدة تخوفت ام كلثوم منه.. يقول:
والمساء الذي تهادى الينا
ثم اصغى والحب في مقلتينا
بسؤال عن الهوى وجواب
وحديث يذوب في شفتينا.
قالت لعبدالوهاب: حديث يذوب في شفتينا.. صعبة دي يا عبدالوهاب.
فرد ضاحكا: ياسلام.. د انت من 30 سنة قلت: القبلة ان كانت م الملهوف اللي على خد الورد يطوف، ياخدها بدال الواحدة الوف ولايسمع للناس كلام. فضحكت ثومة ضحكة عالية قائلة: الله يرحمك يابيرم (تقصد بيرم التونسي).. كان عبقريا. وكان آخر لقاء جمع صوت ام كلثوم بموسيقى عبدالوهاب «ليلة حب»، وعلى قدر ما كانت الليلة رائعة وطويلة إلا أن بعدها تمكن المرض من الست وأبعدها شهورا طويلة عن حفلاتها، فقد دب الوهن في الصوت الجميل ولم يعد الجسد الواثق قادراً على الوقوف. فلكل بداية نهاية ولكل اجل كتاب، وكل من أحب ام كلثوم وعشقها يردد من كلماتها في إحدى روائعها «فكروني»:
كلموني تاني عنك فكروني
صحو نار الشوق في قلبي وفي عيوني
رجعولي الماضي بنعيمه
وهناوته وبحلاوته وبعذابه وبقسوته
وافتكرت فرحت وياك أد ايه
وافتكرت كمان يا روحي بعدنا ليه
بعد ما صدقت اني قدرت أنسى
بعد ما قلبي قدر يسلاك ويقسى
جم بهمسة وغيروني
كانوا ليه بيفكروني
واقرأ ايضاً:
«الحشامين».. اللي يزيد عن حده ينقلب ضده!
كواليس
خلافات وفاء مع زوجها على «ميراث الريح»
خال مروى يؤجل خطوبتها
غريس ديب: حان الوقت لأنتقل إلى مكان آخر
عبير صبري تتبرأ من مشاهد «نور عيني»
دومينيك: «حسك عينك»