أحمد عفيفي
هل عاشت نجاة الصغيرة ـ وهي صغيرة ـ قصة حب مع ابن الجيران قبل ان نعرفها كمطربة صاحبة صوت رقيق شجي؟
حقيقة لا اعرف، وليست عندي اجابة، ولكن عندما غنت «ساكن قصادي»، غنتها باحساس بلغ من الصدق مبلغا حفّزنا كلنا على السؤال: هل عاشت «الصغيرة» تجربة مماثلة؟
ربما نعم، وربما ايضا لا، لكن بغض النظر عن هذا الامر الخاص، امتعتنا نجاة متعة كبيرة حين غنت هذه «الغنوة» القصصية الرائعة.
ولهذه الاغنية حكاية، كانت نجاة الصغيرة تعرف عن مؤلف الاغاني الشاعر الكبير حسين السيد قدرته الفائقة على كتابة الاغنية «الحدوتة»، الاغنية التي تشبه سيناريوهات الافلام، لها بداية ووسط ونهاية، الاغنية التي تراها وانت تسمعها، وتحفّز خيالك على تصور المكان والمشاعر والاحاسيس سواء كانت مبهجة او مؤلمة.
الدلوعة شادية
وكانت نجاة تحب اغنية جميلة جدا للدلوعة شادية «مين قالك تسكن في حارتنا تشغلنا وتقل راحتنا، لا تشوفلك حل في حكايتنا، لاتعزل وتسيب حتتنا»، فاتصلت بحسين السيد كاتب هذه الاغنية، وكان قد كتب لنجاة العديد من الاغنيات قبل ذلك، ولكن ليست على هذا الشكل القصصي، وقالت له: نفسي في «غنوة» تشبه «مين قالك تسكن في حارتنا»، فقال لها: شادية بنت بلد، نقتنع عندما تعبر لحبيبها عن «اللخبطة» التي وقعت فيها بسببه وتقول: «يجي ابويا يعوز فنجان قهوة اعمله شاي واسقيه لامي، وخيالك يجي على سهوة مفرقش ما بين خالتي وعمي»، واكمل حسين السيد: صعب نجاة تعبر بهذه الكلمات.
ردت: انا معاك، لكن مش مهم بالضبط زي شادية، المهم اغنية تشبهها في الحكاية.
فرد حسين السيد: خلاص يا «نوجة»، يومين وارد عليكي.
والمؤلف ـ بحق ـ يملك من الفطنة والذكاء ما يجعله يختار لكلمات اغانيه الصوت الذي يستطيع ان يعبر عنها بالطريقة التي تقنع الجمهور ويتقبلها، فمثلا لا يمكن ان نتصور محمد رشدي الذي غنى «عدوية» و«تحت الشجر يا وهيبة»، يغني «احضان الحبايب» او «نعم يا حبيبي»، ولا يمكن لعبدالحليم ان يغني اغنية عبدالمطلب «ساكن في حي السيدة وحبيبي ساكن في الحسين، وعشان انول كل الرضا يوماتي اروح له مرتين»، مستحيل، لذلك اختار حسين السيد لنجاة اغنية «ساكن قصادي وبحبه»، اغنية تعبر عن شخصية نجاة، الفتاة الطيبة الخجولة التي لا تستطيع ان تبادر من تحبه بالافصاح عن مشاعرها، وتحكي قصتها من خلال الاغنية ويتلون صوتها بين الفرح والحزن والألم، معبرة عن الموقف وما يستدعيه من ردة فعل.
شريط سينمائي
غنت نجاة «ساكن قصادي» التي لحنها وغناها ايضا في تسجيل خاص الموسيقار محمد عبدالوهاب، والاغنية تعتبر من كلاسيكيات الغناء المصري، وجعلتنا نعيش القصة ونتصورها كأن شريطا سينمائيا يتحرك امامنا.
سرحنا بخيالنا مع نجاة، ورأينا انفسنا نسكن في شارعها، شارع بسيط، ناسه طيبون، تربط بينهم الألفة والتآلف، وتخيلنا ايضا شكل البيوت في هذا الحي او الشارع، بيوت متوسطة الارتفاع، المسافات بينها ضيقة، نسمع بكاء الصغير وهو يشكو لأمه من شقاوة اخته وتعديها عليه، تلك المسافات المحدودة خلقت نوعا من الحميمية بين الجيران دون ان تجرح خصوصيتهم.
تخيلنا نجاة وقد تحرك قلبها ناحية تلك الشرفة المقابلة وهي ترى فارس احلامها يقف ساعة العصرية في الصيف بـ«فانيلته» الداخلية وجسمه مشدود كأنه رياضي منذ الصغر، تتحرك احاسيس حلوة في قلبها الصغير الذي ينبض لتوه بالمشاعر، لم يعرف الحزن بعد، تنظر اليه، تتمنى لو حملت نسمات الهواء الرطبة كلمة حب همست بها سرا، وراحت تداعب بها اذنه.
تصف نجاة الموقف غناء:
ساكن قصادي وبحبه
اتمنى اقابله.. فكرت اصارحه
لكن ابدا مقدرش اقوله
وفضلت استنى استنى الايام
في ميعاد ما يسهر وميعاد ما يرجع
كل خطوة ارسم احلام
تكبر في قلبي والقلب يطمع
واقول مسيره حيحس بيا
لو يوم صادفني وسلم عليا
حيلاقي صورته ساكنة ف عنيه
ويحس بيها في رعشة ايديا
تعبير مغلف بالصدق والعفوية الشديدة لفتاة صغيرة يرق قلبها لأول حبيب فتهبه ـ بإرادتها وبدونها ايضا ـ مشاعرها البكر وتبث اليه احلامها.. وردة ـ لتوها ـ تتفتح للحياة:
كنت حاسة ان حبه كل مدى كان بيكبر
ابقى عايزة لو يكون لي قلب غير قلبي الصغير
احساس بسيط وغاية في الوداعة.. من فرط حبها ربما لا يستطيع هذا القلب الصغير استيعابه واحتواءه، لكن لتحلم نجاة باللحظة القادمة ولتسرح بخيالها كيفما تريد:
فضلت امالي مع الليالي
تقرب حبيبي اللي ساكن قصادي
حبيبي.. اللي ساكن قصادي.. وبحبه
حلم جميل
الفتاة الوديعة تنام وتحلم بفتاها، تُسكنه بين جفونها فلا ترى في حلمها ويقظتها الا هو، ولأن المشاعر لا تختبأ، ادركت ان كل اهل الحي يعرفون بقصة حبها البريئة الرقيقة.. تستيقظ الجميلة من النوم ـ ان كانت قد نامت من الاصل ـ وتسمع زغاريد واصواتا مبهجة وتهاني وتبريكات جعلتها تستبشر بيوم شمسه ساطعة وقمره مضيء:
وف يوم صحيت على صوت فرح
بصيت من الشباك
زينة وتهاني وناس كتير دايرين هنا وهناك
شاورولي بايديهم وقالولي عقبالك
هللت م الفرحة وسألت...؟
هل يمكن في لحظة ان ينكسر الحلم ويتحول في غمضة عين الى كابوس؟.. ليت الحبيبة لم تسأل:
قالوا جارك.. جارك.. حبيبك
حبيبي اللي ساكن قصادي وبحبه
موقف درامي يفرض نفسه عليك لتتخيله وتعيشه.. في قمة ابتهاجك بحب ينبت في قلبك وانت لا تعرف صداه عند الحبيب، الا ان ذلك لا يمنعك أبدا من ان تعيش اللحظة حتى مع نفسك.. التمني في حد ذاته مشروع حلم جميل لكن عندما تصدمنا الحقيقة.. ننكسر ونستسلم.
رحت الفرح بالليل ورسمت في عنيه الفرحة
ساعة ما كان بيشيل بايديه وبعنيه الطرحة
شربت شربتهم وانا قاعدة بصالهم
لحد ما قاموا ومشيت.. مشيت اوصلهم.
هل عشت هذا الاحساس من قبل.. ان ترى حلمك وقد تحقق لغيرك، ولم يترك لك الا الحسرة والالم، وفقدان بارقة امل ـ ولو ضئيلة ـ في استعادته مرة اخرى:
حتى الامل مبقاشي حقي افكر فيه
بعد الليلة دي خلاص بقى غيري اولى بيه.
واقع مر بطعم العلقم، تجرعته المسكينة رغما عنها ومشت تتخبط في الطرقات تنعي حلمها الذي أُجهض في شهوره الاولى:
وتوهت وسط الزحام ما حد حاسس بي
عايزة اجري اجري وارجع اتوه والناس يقولوا حاسبي
وتفرض المقارنة نفسها بين حال ناس وحال آخرين:
ناس في طريق النور مابين فرح وشموع
وأنا في طريق مهجور ومنوراه بدموع
إشارة
تعود فتاتنا من حيث اتت، تبلل دمعاتها خديها على حلم كانت تظنه بين يديها يتحقق، واذا بها تدرك ان ما وهبته حبها لم تصله اشارة واحدة منها، ليس عيبا فيها وانما في من كان قلبه متيم بأخرى:
ولقتني فايته من جنب بابه
لاهو داري بقلبي ولا باللي نابه
ويا ويلي يا ويلي من طول غيابه
ويا ويل ايامي من جرح عذابه
وعذاب الجرح اللي فاته لي وسابه
.. ما كتبته مجرد حالة وقتية عشتها للحظات وانا اتذكر واكتب عن هذه الاغنية التي غنتها نجاة منذ 40 سنة الا انها والى الآن (عايشة) وتحدث في من يسمعها نفس التأثير وربما اكثر.
ولم تنته الأغنية مثلما بدأت، بل زادت وأضافت، فإن كان من منحته رقيق مشاعرها قد راح لغيرها، الا انه يظل حبها الاول، وان احبت بعده مائة.. سيبقى هذا الحب كمعنى وذكرى يحتل حناياها وجنباتها.. رابضا مستوطنا فؤادها.. يمد في شرايينه دماء الحياة، فتروي بذوره وتطرح ورودا واشجارا ونبع ماء وخضرة:
ساكن في قلبي... وساكن قصادي
وبحبه.. بحبه.. بحبه.
ماذا أقول له
استعذبت نجاة هذا اللون من الغناء، فغنت بعد «ساكن قصادي»، «ماذا اقول له» ولكن بمستوى مختلف ولشاعر يعجز اللسان عن وصفه، أقصد نزار قباني الذي كان يعشق صوت نجاة ويعتبرها من القليلات اللاتي يجدن توصيل معاني قصائده، وله غنت نجاة «أيظن» و«متى ستعرف كم اهواك» و«ماذا اقول له» والاخيرة لوحة فنية شاعرية غير مسبوقة تحتاج وحدها الى حكاية اخرى.