أحمد عفيفي
أبدأ من الآخر، من نهاية الفيلم، وأحد الاشخاص العاديين يستقل «تاكسي» والسائق يدس في الكاسيت شريطا ينطلق منه صوت اجش لا يصلح الا لتسليك البلاعات المسدودة، ويردد ـ ولا اقول يغني ـ: الكيمي كيمي كو الكيمي كيمي كا، ينزعج الراكب من الصوت وما ينطلق منه من هزل لا معنى له، ويدور هذا الحوار بين الاثنين، السائق والزبون:
من فضلك وطي الكاسيت او اطفيه.
السائق باستغراب شديد: ده مزاجنجي يا بيه.
مزاجنجي.. فيه مطرب في العالم اسمه مزاجنجي؟
امال يا باشا، ده شريطه الجديد، ومكسر الدنيا.
وفيه حد يسمع اغنية اسمها الكيمي كيمي كو؟
السائق ولاتزال الدهشة تلف رأسه من اشمئزاز زبونه: انا زي سيادتك بالضبط، اول ما سمعتها معجبتنيش، لكن لما ودني اخدت عليها «نخششت في نافوخي وكيفتني»!
حوار لم يستغرق دقيقة واحدة من عمر الفيلم لكنه لخص المعنى بأكمله.
أتحدث عن فيلم «الكيف» لبطليه محمود عبدالعزيز ويحيى الفخراني والجميلة نورا وكتبه السيناريست محمود ابوزيد واخرجه علي عبدالخالق، وكان الاثنان (الكاتب والمخرج) صديقين وقدما معا «العار»، و«جري الوحوش»، وقد ضمتهما جلسة اصحاب اعتادا عليها كل فترة في احد مقاهي المهندسين، وفي احدى الجلسات دار الحوار عن الاغاني الهابطة التي انتشرت رغم خلوها الا من الهزل والبذاءة، «كوز المحبة اتخرم، وايه الاستك ده، وقبلها بسنوات: الطشت قاللي يا حلوة ياللي قومي استحمي، هذه التي يدعي اصحابها انها اغنيات قبل ان يتحفنا عم شعبان بـ «ح ابطل السجاير وخلاص حاشيل حديد»، ومن بعده المدعو سعد الصغير صاحب «بحبك يا حمار» والبلح اصفر واحمر واخضر وفوشيا كمان.
ونعود الى الصحبة النابهة التي ضمت كاتب السيناريو والمخرج وآخرين، فقد ابدى احد الجالسين دهشته من انتشار مثل هذه الاغنيات وتحقيقها ارقاما قياسية في التوزيع رغم اعترافه واعتراف الجميع بانها كلمات تافهة ورخيصة ولا معنى يذكر لها، فلماذا تنجح وتنتشر؟ علق محمود ابوزيد قائلا ومجيبا: لاننا لم نعد نسمع غيرها في الـ 24 ساعة، والمثل يقول «الزن ع الودان اقوى من السحر» وعندما تتعود الاذن على الركيك من الكلمات والاصوات، يمكن بعد ذلك ان تستسيغها، ثم صمت للحظة واضاف: وتدمنها.
والتقط المخرج علي عبدالخالق الكلمة الاخيرة «وتُدمنها» وقال لمحمود ابوزيد: فكرة عبقرية يا محمود، ان اعتادت العين على الزبالة، لو رأت بعد ذلك حدائق زهر تفوح منها ازكى الروائح لشعرت ربما باشمئزاز ولم تدرك قيمة الجمال لانها تشبعت بالقبح لدرجة الادمان! وكانت بحق فكرة عبقرية نسج منها محمود ابوزيد رؤية شديدة العمق والمعنى وقدم لنا مع علي عبدالخالق فيلم «الكيف» ومن خلاله نرى ترابطا وتداخلا رائعا بين ادمان المخدرات وادمان الفن الهابط ايا كانت نوعيته اغاني، افلام، رسومات.
نعم هناك بعض المبالغة، لكنها مبالغة مطلوبة ليصل المعنى، كرسام الكاريكاتير يبالغ في خطوطه ليقول من ورائها شيئا يريده تحديدا، وحتى لا نبعد ونقترب اكثر من هذا الدمج والتجاذب بين القطبين (المخدرات والسفيه من الاعمال)، نتحدث عن الفيلم. الاسم جمال والشهرة مزاجنجي ومحمود عبدالعزيز في واحد من اهم ادواره على الشاشة، حاصل على ليسانس الحقوق لكنه فقط يعلق الشهادة على الحائط او يدسها في درج المكتب، فوجودها مثل عدمه من وجهة نظره، مدمن مخدرات و«غاوي غنا»، وقد رأى موجة شديدة الهبوط تجتاح السوق واصحابها يركبون المرسيدس وهو يدرك تماما انها موجة سفيهة مقززة، لكنها على حد قوله بتجيب فلوس وتطعم اصحابها الشهد، فلماذا لا يركب هو الآخر هذه الموجة؟ صوته «وحش»؟ يا سلام وايه يعني، مثله مثل مئات صدعوا رؤوسنا وآذاننا.
في المقابل، اخوه صلاح دكتوراه في الكيمياء، «طفح الدم» كي يحقق لنفسه مكانة علمية يحترم من خلالها ذاته، حتى وان افتقد هذا الاحترام في عيون الآخرين، مفلس؟.. نعم، عاجز عن سداد مصاريف مدرسة ابنه؟.. نعم، لكن العلم في حد ذاته قيمة ـ يحدث صلاح اخاه ـ وهو يستدين منه ليسدد اقساط المدرسة، ويعلق جمال الذي دعكته الحياة وعجنته فجعلته ربما اكثر واقعية منه: وهي القيمة مالهاش تمن؟، بكالوريوس علوم وماجستير ودكتوراه وفي الآخر 200 جنيه في الشهر؟، وواحدة «رقاصة» تهز وسطها وصدرها نص ساعة «تنتع» فيها الشيء الفلاني اللي لو سعادتك اشتغلت بالدكتوراه بتاعتك بقية عمرك مش ح توصل لهزة وسط منها في ساعتين! كلام منطقي ويغيظ بحق، كان لابد منه كي يمهد كاتب السيناريو للتحول الذي سيدركه استاذ الكيمياء حين تجذبه اللعبة الشيطانية ويتورط فيها.
وكانت البداية «حتة حشيش» وجدها مع أخيه فألقى بها في الحمام وصُعق عندما أخبره بانها بـ 200 جنيه.. يا نهار أسود – هكذا قال – حتة حشيش بـ 200 جنيه؟.. يعني راتبي في شهر؟ وسأله: معنى كده ان تجار المخدرات بيكسبوا الملايين.
يبيعوا لكم الوهم ويصبحوا مليونيرات على قفا المساطيل اللي زيكم. يرد أخوه: الوهم؟.. تقصد ايه؟ يقول صلاح: طبعا وهم.. مفيش حاجة اسمها الكيف، احنا اللي عايزين «نتسطل» والاستعداد عندنا موجود.. ثم أعطاه قطعة طرية على انها حشيش وهي عبارة عن خلطة حنة مع لبان دكر وشوية بهارات.. يأخذها جمال ويبيعها لتاجر التجزئة بألف جنيه، ويفاجأ بهذا التاجر يطلب منه المزيد.. واللي تطلبه أنا حاضر. ويرجع الى أخيه استاذ الكيمياء ويعطيه 500 جنيه (النص بالنص)، ويكاد عقل الاستاذ يطير من الدهشة.. 500 جنيه في خلطة خادعة لم تكلفه إلا دقائق من وقته في معمله. وتبدأ اللعبة وتجر صاحبنا الى أقصى مدى ليدرك بعد فوات الأوان ان هذه الخلطة هي أكبر غلطة في حياته.. التاجر يريد أكثر، والفلوس تتكدس عند الشقيقين، لكن ضمير استاذ الكيمياء غير مرتاح.
فيقول له جمال: زعلان ليه يا بتاع الكيمياء يا متعلم.. ثم ليُخرجه من حالته يقول: ايه رأيك.. تحب ادلعلك الكيميا و«اعبيها لك» في شريط؟ يرد صلاح ضاحكا: ازاي؟ فيفرد جمال ذراعيه ويفتح صدره ويلف حول نفسه وهو يردد: «الكيمي كيمي كو الكيمي كيمي كي.. الكيميا منجهتنا وارتحنا في الشاليه.. والكيمي كيمي كو.. م الكيميا عملوا اللحمة والفتة والجاتوه). وتمتلئ خزينة جمال فيفكر بالفعل في تعبئة شريط ويبحث عن مؤلف أغاني هابطة – هكذا يريد تحديدا – أو على حد قوله: اديني في الهيافة وانا احبك يا ننس... ويجد ضالته عند الريس ستاموني ويسمع منه:
يا حلو بانت لبّتك.. أول ما دابت قشرتك
تحرم عليا محبتك.. وراح اتوب عن سكتك
الله.. الله يا ستاموني يا منجهة يابو دماغ متكلفة – يقول جمال وكأنه مُخدر.
.. اكمل يا عبقري:
القلب منك مليان جفا.. والصبر من قلبي اتنفا
وضاع معاك كل الصفا.. ضيعته بعندك يا... قفا
وكأن «يا قفا» فقط هي النقطة السوداء في ثوب ناصع البياض.. أو كأنه مثلا سمع الاطلال وصعقته كلمة لا مكان ولا محل لها من الإعراب.. ويضحك ستاموني ويبدد دهشته قائلا: ماهو ده الجديد.. عمرك سمعت حد بيغني للقفا.. كلهم ياخويا بيغنوا للخدود والشفايف والعيون.. فيرد جمال: عندك حق.. القفا مظلوم.. محدش عارف قيمته، مع انه مهم جدا.. ثم وهو يضحك ضحكة حشاشين ويتحسس قفاه: وبيستحمل كتير.. ويُفاجأ الاستاذ بالحنة التي روجها على انها حشيش تكتسح السوق ويكتشف ان التاجر الكبير الذي أصبح يورد له بالأطنان يخلطها بالماكس فورت أخطر أنواع المخدرات في العالم فيدرك في هذه اللحظة الحفرة التي انزلقت فيها قدماه ولا يملك منها خروجا.
يُجبره التاجر على المزيد من التوريد مقابل ملايين الجنيهات وعندما رفض وبصق في وجهه أعطاه هذا التاجر حقنة مخدرات كوكتيل ليكون تحت «جزمته» وطوع أمره. ويقع صلاح تحت قبضة تاجر المخدرات ويقع جمال تحت سطوة وشهوة الاغاني الفاسدة والشرائط، ويكتسح «يا حلو بانت لبتك» السوق ويسأل احد العاملين مع مزاجنجي متعهد توزيع الشرائط:
ايه اخبار الشريط؟
ماشي زي الصاروخ، كل ما أجيب كمية تطير في ثواني.
يا سبحان الله.. مع ان صوته يجيب الطرش في الودان.
بكرة الناس تتعود عليه ويبقى نغم.
نغم ولا لغم؟
متفرقش.. المهم يقش ويجيب فلوس.
... ومن عندي ـ اذا سمح لي كاتب السيناريو ـ أكمل بقية الحوار كما تصوره خيالي وفي نفس السياق.. لكن بصورة اكثر إيلاما:
يعني انت عارف ان صوته معفن؟
وكلامه أعفن وحياة والدك.
أمال الناس بتشتري ليه؟
عشان العفانة بقت تعجبها.
وفيه حد في الدنيا يحب العفانة؟
ما احنا عايشين فيها ليل نهار.. أول يوم ح تقرف وتسد مناخيرك.. تاني يوم ح تقرف برضه، بس مش حتسد مناخيرك.. ثالث يوم القرف ح يقل كتير.. رابع يوم مش حتفرق معاك.. بعد اسبوع وشهر وسنة حتلاقي نفسك بتحبها ومش قادر تستغني عنها!
باستغراب شديد: عن العفانة؟!
طبعا.. لأنك وقتها ح تبقى أعفن منها.. خلاص، اتعجنت فيها وبيها.. وساعتها تبقى تحمد ربنا انها قابلة تعيش مع واحد معفن زيك! ويطلق الاثنان ضحكة عالية تبكي وتدمي قلب كل من أدرك المعنى واستوعبه.
ومن حيث بدأنا ننتهي.. سائق التاكسي المنتعش وزبونه الممتعض حيث ينطلق السائق في شوارع القاهرة وينطلق معه صوت مزاجنجي.. يدوس في طريقه وبنشازه كل كلمة جميلة وكل نغمة اصيلة أنسانا اياها لنجد انفسنا دون ان ندري نردد وراءه ـ رغم الاحساس المقيت بالقرف والغثيان: الكيمي كيمي كو الكيمي كيمي كا.