أحمد عفيفي
في الذاكرة العديد من الحكايات الفنية، أسترجعها بين الحين والاخر لأتخير المناسب منها واكتب عنه، وفي الذاكرة ايضا العديد من العبارات التي قيلت في افلام و«علقت» مع الجمهور بحيث صارت – ربما – اشهر من الفيلم ذاته، فإذا جاءت سيرة رائعة ثروت اباظة «شيء من الخوف» نتذكر على الفور «جواز عتريس من فؤادة باطل»، وننسى – ربما – احداث «ثرثرة فوق النيل» ولا ننسى عم انيس، عماد حمدي، وهو يصرخ في نهاية الفيلم: «ياناس فوقوا»، واذا خطر ببالنا فيلم «شارع الحب» نردد دون تفكير: انت اللي ح تغني يا «منعم».
الحقيقة لم يكن فيلم شارع الحب من ضمن الحكايات الفنية التي احكيها اسبوعيا، الى ان صادفني وانا اقلب بين قنوات التلفزيون، ولم تكن هذه المرة الاولى التي اشاهده فيها، بل رأيته عشرات المرات، لكن لا أعرف لماذا هذه المرة تحديدا اوحى الي بالكتابة عنه، بل ألح علي ان امسك بالقلم لأكتب، على الرغم من انني لا اعرف تفاصيل انتاجه وتقديمه، كل ما اعرفه انه للكاتب الكبير يوسف السباعي، واخرجه عزالدين ذو الفقار، اما البطولة فكانت لعبد الحليم حافظ والفاتنة صباح وعبدالسلام النابلسي والعبقري اداء حسين رياض. لكن القضية ليست في هذه الاسماء الكبيرة، وليس حافزي او محفزي على الكتابة هو ما سبق هذا الفيلم من تحضيرات لا اعرفها اساسا، وانما القضية في المعنى الجميل الذي افتقدناه في السنوات العشر او العشرين الاخيرة، معنى ومفهوم الحب، ليس في نطاقه الضيق والمحدود بين اثنين، رجل وامرأة، انما اتحدث عن الحب في المطلق، والسؤال الذي هزمني وكاد يبكيني وانا ابحث لاهثا عن اجابة له: اين هو الآن، هذا الشارع؟ من يدلني عليه اعطيه عمري عن طيب خاطر.. «بلاش» الشارع دلوني على حارة او عطفة او زقاق اسمه الحب، الآن يوجد شارع كبير عريض وممتد «رايح جاي» اسمه شارع الكراهية، وهناك حارة البغض ونكران الجميل، وعطفة الحقد بسواده المميت، وزقاق الغدر والخيانة.
اريد عنوانه
والسؤال مستمر.. ولا إجابة، من فضلك اسأل سؤالا اكثر يسرا وسهولة، ربما استطعنا مساعدتك.. اكاد اسمعها عبر «الأنسر مشين» لكن للأسف ليس عندي الا هذا السؤال: شارع الحب، اريد عنوانه، لو في اخر بلاد الدنيا، اذهب اليه حافيا، سائرا على قدمي وان ادماهما الطريق الوعر وصبب عرقي قيظ صيف حارق، المهم ان اصل وأجده، هذا الشارع اعلم يقينا انه سراب، كلما اقتربت منه وظننت انني وجدت ضالتي، أكتشف الخدعة الواهمة، فأعود «اجرجر خيبتي» وألمح من بعيد مرة اخرى بقعة ضوء فأعاود السير ربما تحقق الحلم المستحيل.
ومثلما قلت لا اعرف حكايات عن هذا الفيلم سوى انه واحد من اجمل ما قدمت السينما المصرية بما حواه من معان اصيلة افتقدناها سنة وراء اخرى، الصبر مع اليقين الذي تثبته قوة الارادة والاعتقاد الراسخ في العقل بأنه لا يصح في النهاية الا الصحيح، لا احد يصبر الان، الكل متعجل والكل يريد ان ينهش لحم اخيه حيا وميتا، المهم ان يحقق ما يريده، فلا طاقة له او عنده لصبر او لغيره.
في الفيلم، منعم او عبدالحليم حافظ يحصل على الشهادة العلمية من معهد الموسيقى ولا يجد عملا ويكاد يطيح بهذه الشهادة المعلقة فوق الجدران لولا عم جاديليو «حسين رياض»: اصبر يا ابني، عشان تدوق الحلو لازم تشوف المر، هي الحياة كده، المهم احنا معاك، جنبك، ضلك وضهرك كي ترفع رؤوسنا ونعوض بك ومن خلالك ما عجزنا نحن عن تحقيقه.
وحسب الله السادس عشر «عبدالسلام النابلسي» قائد الفرقة الذي ينام ويحلم بفرح او «طهور صغير» او جنازة كي يضمن عشاءه مع من حوله. هذا الرجل عندما جاء منعم يحمل شهادته أراد ان يتنازل له عن قيادة الفرقة تقديرا واحتراما واعترافا بقيمة العلم، لكن اصالة منعم تغلب المفروض والمفترض: لأ ياسطى انا مهما كبرت مش ح اكبر عليكم، انتوا اهلي وناسي، انا كبير بس بيكم.
قيمة بسيطة عميقة المعنى والدلالة ليتنا نعيها.
سماء الطرب
شارع الحب، حكاية بسيطة، حكاية صعود نجم من شارع محمد علي، شارع الاصالة والوفاء الى سماء الطرب والغناء، من فرقة حسب الله السادس عشر الى فرقة ماسية يقودها مايسترو، ولا يخلو هذا الشارع – رغم اسمه – من نقيض معناه، فلن نعرف قيمة الذهب وبريقه الا اذا رأينا الصفيح وصدأه، لكن الحب هو الغالب في هذا الزمن البعيد، ينتصر دائما في النهاية، على العكس تماما الان الشر هو المسيطر والكلمة العليا له، النفوس متخمة بالاحقاد، والكل يتآمر على الكل، وانا، انا فقط ومن بعدي الطوفان.
«نعم يا حبيبي نعم»، ابواب المجد تفتح ابوابها على استحياء للمطرب الجديد القادم من القاع الى قمة الهرم، اول ميلاد حقيقي لمنعم، والغناء في الاوبرا وجمهور كبير سيوقع شهادة نبوغه وتألقه.
لحظة فارقة في حياته، إما ان يولد من جديد او الموت كمدا وقهرا، الحلم على مشارف التحقق ليصبح حقيقة كاملة المعالم، لكن هذه الحقيقة ستحطم آخرين وتكوي نفوس حاقدين، فكيف نجهضه في رحم امه؟
من غير المايسترو لا يستطيع منعم ان يغني، اذن فليختف المايسترو، باقي عشرين دقيقة والمسرح ممتلئ عن اخره والاستاذ عزيز لم يأت، ح اقول ايه للجمهور؟ تسأل صاحبة المسرح، وتكمل: اتصلوا بأي مطرب كبير ينقذ الموقف.
ويخرج السمك من الماء من دون صياد وسنارة، مدركا ان خروجه يعني موته - اتحدث عن عم جاديليو الموسيقار الكبير الذي هرب من حكم بالمؤبد بعد قتله زوجته الخائنة، لكن ما قيمة الحياة اذا خلت من الوفاء وإيثار الغير؟، هنا يصبح الموت قيمة في حد ذاته ان كان سيمنح الحياة لآخرين نحبهم.
عم جاديليو يسمع عبر المذياع غياب المايسترو قائد الفرقة الذي سيعزف لحنه القديم «نعم يا حبيبي»، الجنين خرج رأسه فقط من الرحم، والطبيب غير موجود، وان لم نسرع باستدعاء اخر، فسيموت القادم دون حتى صرخة الميلاد.
هكذا يحدث مختار نفسه، الحلم الذي عاش له لن يتحقق وسيتحول الى كابوس، ليخرج اذن السمك من الماء وليره من يراه، المهم، منعم لازم ينجح.
باق 5 دقائق والاستاذ عزيز لم يحضر، ومنعم، راضيا بحظه ونصيبه لمدير المسرح: خلاص يا استاذ، مفيش فايدة، اتصل بأي مطرب اخر ليحيي الحفل.
«لأ.. انت اللي ح تغني يا منعم»
السمك هجر بإرادته مقومات حياته ليمد الدم في شرايين اخر كان يحتضر.
منعم باكيا: مش ممكن حياتي تكون على حساب موتك.
يرد الكبير – والوصف أعنيه: الحياة
يا منعم ملهاش معنى اذا ما اسعدتش اللي بنحبهم وخلاص، السمك خرج من الميه والناس شافتني وعرفتني، متحرمنيش من اخر امنية في حياتي اني اشوف ثمرة تعبي وكفاحي.
نعم يا حبيبي
يغني حليم نعم يا حبيبي نعم.. يبكي ويبكينا معه
تصفيق مدو للصوت الحالم الجديد، والاب يحتضن ابنه ظنا من الاثنين انه الحضن الاخير.
- عاش من شافك يا استاذ مختار، من زمان محرومين من الالحان الحلوة دي، يقول الضابط
مختار خاضعا للواقع المر: انا تحت امرك، اودعهم واجي معاك.
- على فين؟!
- ع السجن.
- انت عارف بقالك اد ايه هربان؟
- سنين كتيرة.. تعبت من عدها.
- اكتر من 20 سنة، يعني القضية سقطت خلاص، تعالى لي بكره المكتب عشان نقفل المحضر.
وتنتهي الحكاية، حكاية كل من اراد الصعود وتحقيق ذاته ووجد في طريقه من يحبطه تارة ويحاربه تارة اخرى، لكنه يمضي، يقع ويقوم واقفا من جديد، والعبارة الموحية تملأ سمعه وتسكن قلبه بيقين وايمان الواثقين: «انت اللي ح تغني يا منعم».
كل كلمة حب حلوة قلتهالي
يغني حليم في الفيلم:
بس قلبي لسه خايف م الليالي وانت عارف اد ايه ظلم الليالي
لابد ان يخاف ويحتاط، فحتى الحب ومشاعره الرقراقة النبيلة، كان الرهان عليه زجاجة كوكاكولا بين فتاتين من الطبقات الراقية – او هكذا تظنان – من تجبر الاستاذ على حلاقة ذقنه تعطي المهزومة للمنتصرة زجاجة كوكاكولا، يا بلاش اللعبة الازلية للاغنياء حين يسلون انفسهم بمن هم – من وجهة نظرهم – اقل قدرا وادنى شأنا، اصعب شيء في الوجود ان تكون المشاعر مشاعا للهو والعربدة، لكنها اللعبة، تمتع من يقود دفتها وتدمي قلب من يبحث وسط الامواج عن طوق نجاة.
عم جاديليو
حسين رياض في واحد من اروع ادواره.. عم جاديليو او الموسيقار الاستاذ مختار صالح، ضحية زوجة خائنة، قتلها وهي في احضان عشيق فاجر، لم تخجل من فعلتها حين ضبطها، بل الادهى كانت تظن انه يعرف وان سكوته و«طناشه» رقي وترفع، هكذا الخيانة في دائرتها الضيقة العفنة، وعندما وجدته ثائرا، يشهر مسدسه في وجهها اخرجت من جوفها كل «الوساخة» المعجونة بها وفيها: يافلاح، يا آلاتي، يا مزيكاتي، يا حقير. يهرب عم جاديليو من حكم بالمؤبد صدر ضده غيابيا ويتخلى مرغما عن قيمته وقدره وعلمه ليصبح مجرد نفر في فرقة حسب الله التي كانت «أحن عليه» من بنت الذوات العاهرة.