احمد عفيفي
تذكرت وأنا أجهز لحكاية هذا الأسبوع عن قصيدة «كلب الست» مشهدا موجعا ومضحكا في آن واحد من فيلم «غزل البنات» للعملاق الراحل نجيب الريحاني حين دخل سراية الباشا وجلس ينتظر، فجاءه رجل في هندام محترم يجر كلبا أنيقا بسلسلة أكثر أناقة، ويتكلم من أنفه تعاليا وتكبرا، فقام منتفضا يتدلى رأسه لأسفل تقديرا واحتراما ظنا منه أنه الباشا، وإذ به يفاجأ إنه مجرد خادم للكلب. فسأله الريحاني: يعني انت مش الباشا؟ فرد: لأ.. أنا مش الباشا.. أنا هنا عشان الكلب ده! الريحاني معلّقا بسخرية لاذعة: يعني حضرتك بتاع الـ (.....)؟ فقال الخادم مفاخرا: أيوه أنا بتاع الـ (....). فسأله الريحاني: وبتاخد كام على كده؟ فأجاب الخادم بامتعاض: 30 جنيه. فعلق الريحاني مستغربا: بس.. حرام! رد الخادم: طبعا حرام.. أنا بأكله واشربه وافسحه واحميه.. كل ده بـ 30 جنيه في الشهر.. وحضرتك بتشتغل ايه؟ فرد الريحاني: انا.. بتاع كتب.. بتاع علم.. فسأله الخادم بتأفف: ماهيتك كام في الشهر؟ فأجاب الريحاني بخجل بالغ وعينه في الارض: 3 جنيه.. ثم يردد بينه وبين نفسه: لو طول عمري كنت بربي كلاب مش بني ادمين، كان زماني من الأعيان. هذا عن نجيب الريحاني الذي صدمه الواقع المؤسف لمجتمع يستحق الرثاء.. كلب الباشا له كرامة مصونة بينما هو لا يجد من – لا اقول يحترمه – بل من يتعاطف معه ويطبطب عليه ويواسي أحزانه التي فرضها عليه واقع أعمى لا يهب واقفا إلا لأصحاب الحظوة والمقامات الرفيعة. وإذا كانت هذه حكاية الاستاذ الريحاني مع الكلب، فصاحبنا اسماعيل له حكاية أخرى مع كلب أم كلثوم أو «كلب الست» كما اسماه في قصيدة احمد فؤاد نجم.. تعالوا نقرأها:
الخبر في الصفحة الأولى من جريدة «الاخبار» المصرية.. يقول ان كلب أم كلثوم عض شخصا اسمه اسماعيل كان يسير أمام الفيلا وتوقف ليطالع المكان منبهرا، فلمحه الكلب فخرج من البوابة ونهش لحم المسكين الذي لم يكن يعرف ان هذه الفيلا تسكنها أم كلثوم، فراح من الألم والوجع يسب الكلب وأصحابه حتى تكالب عليه «البوابون» وأبلغوا الشرطة متهمين صاحبنا بأنه سب الكلب والست بحكم انها صاحبته.
الخبر في حد ذاته في غاية الطرافة عندي وعندك، لكن عند احمد فؤاد نجم له معنى ومنحى آخر، لذلك لم يفوت المسألة تمر مرور الكرام فكتب قصيدة اسماها «كلب الست»، سخر فيها من أم كلثوم وكلبها الذي جعل المجني عليه جانيا، لا لشيء سوى انه «كلب الست».
واحمد فؤاد نجم لمن لا يعرفه شاعر «صايع» – هكذا يطلقون عليه – ليس تقليلا من شأنه وإنما توصيفا له كشاعر جريء لا يهمه احد مهما علا شأنه، ويكفي انه سجن أكثر من مرة بسبب قصائــــده الملتهبة ضد النظام أيام عبدالناصر والسادات، حتـــــــى في عهد مبارك الآن لا يهدأ نجم ولا يفوّت أي مناسبة تستلزم منه كلمة ولا يقولها، فقد تعود على السجن وأصبـــــــح بالنسبة له مجرد مشوار يذهبه رغما عنه، طالت المدة أو قصرت، لا يهم، المهم ان تستفز قضبان السجن قريحته ليكتب قصيدة.
مجرد موضوع
وعودة الى «كلب الست»، فلم يعجب شاعرنا ان يتحول المجني عليه الى جان، وبدلا من ان يأخذ حقه وتعويضا من أم كلثوم وجد المسكين نفسه مطالبا بالاعتذار لسبه الكلب رغم تأكيده أنه لم يكن يعرف ان هذه الفيلا لكوكب الشرق أم كلثوم التي قال عنها نجم في القصيدة:
ست فاقت ع الرجال في المقام والاحترام
صيت وشهرة وتل مال، يعني في غاية التمام
وبمجرد ان كتب نجم القصيدة انتشرت بسرعة البرق وتناقلها عشاقه وأتباعه وهم بالآلاف الى ان وصلت لأم كلثوم التي غضبت من الشاعر الا انها لم تستطع ان تخفي ضحكتها وهى تقرأ القصيدة لطرافتها، وهدأت الى حد كبير بعد ان قال لها احد الأصدقاء ان نجم من كبار المعجبين بصوتها والمتيمين بحبها، وما كتبه مجرد موضوع آثار قريحته فأبى ان يمر من تحت يديه دون تعليق.. صحيح انه غالى كثيرا في سخريته الا انه في الأول والآخر شاعر ولا تتعارض قصيدته مع حبه وعشقه لأم كلثوم.
وهنا ضحكت أم كلثوم وقالت: ده مش شاعر.. ده صايع شعر، مؤكدة انها تقرأ له كثيرا ولولا شطحاته السياسية وضربه للنظام في مقتل لغنت له.
وقرأت أم كلثوم أمام جمع من المقربين لها مقاطع من القصيدة وهي تضحك:
فوكس ده عقبال أملتك عنده دستة خدامين
يعني مش موجود في عيلتك شخص زيه يا اسماعين
وتعلق الست مبتسمة: دستة خدامين.. ده هو خدام واحد بيخدمنا كلنا.. ثم تقول مازحة: وايه اللي يخلي اسماعين يقف قصاد الفيلا، مع اني والله لو شفته كنت عزمته على فنجان قهوة، لكن بالمناسبة مين هو اسماعين؟
رد احد الجالسين من القصيدة:
اسماعين ده يبقى واحد م الجماعة التعبانين
اللي داخوا في المعاهد والمدارس من سنين
حب يعمل واد فكاكه ويمشي حبه ف الزمالك
والقيامة والفتاكة يرموا طبعا ع المهالك
فوكس بيه
وعرف احمــــــــد فؤاد نجم ان القصيدة أغضبت أم كلثوم فقال مازحا: ملهاش حــــــق تزعل.. كان أولى بيها تزعل على اسماعين اللي اتبهدل في القسم بسبب فوكس بيه.. وراح يردد:
راحوا قسم الشرطة طبعا والنيابة كفيلة بيهم
واترموا في الحجز جمعة لما يجي الدور عليهم
تفتكر يفضل سي سمعة قد ايه في القسم نايم
استضافه الحجز جمعة.. يابلاش ادي العزايم
شاف بلاوي ما تتحكيش م الديابة المسجونين
قال ياعالم يا شاويش يا نيابة يا مسؤولين
يضحك نجم ويقول: «طلعوا عينه وعين اللي خلفوه» حتى انه اعتذر عن تهوره بالتنزه في الزمالك وهو ابن بولاق ابو العلا اللي يفصلها عن هذا الحي الراقي مجرد كوبري.. كوبري تمشيه في 5 دقائق لكنه يفصل بين عالمين.. عالم الكبار وعالم الغلابة المطحونين، لم يطمع اسماعين – يقول نجم – انه يبقى من سكان الزمالك، وان كان من حقه ان يحلم، لكن ان يدفع تمن مجرد المشي في شوارعها إهانته في الحجز.. وعلى يد من.. على يد كلب ابن كلب يتمتع بحصانة لكونه كلب أم كلثوم، فلا ولو كان فوكس افندي يحرس قصر الرئاسة!
ويكمل نجم من القصيدة ما حدث لاسماعين والتحول الذي أجبر عليه بعد اسبوع واحد في الحجز:
خلصوه بعد المناهدة جثة من جحر الديابة
هيه يمكن ساعة واحدة كان في مكتب النيابة
قال له مالك يا اسماعين.. رد زي البمب مالي
قال له: عضك كلب مين
قال له: سيبني اروح لحالي
انت شوف سي فوكس يمكن خد تسمم غصب عني
الوكيل قال برضه ممكن والشاويش قعد يغني
انت فين والكلب فين.. انت زيه ياسماعين
طب ده كلب الست يابني انت تطلع ابن مين؟!
هرم رابع
وطلب احد الصحافيين من أحمد فؤاد نجم ان يبادر بالاعتذار لأم كلثوم على اعتبار انه تجاوز في حقها ببعض الأبيات، فلم يمانع نجم، مؤكدا انه من عشاق أم كلثوم ويعتبرها الهرم الرابع في مصر، وتوسط نفس الشخص عند ام كلثوم لترتيب لقاء صلح بين الاثنين فلم تمانع الست وكان شرط نجم الوحيد لهذه الزيارة ان يتم حبس الكلب فوكس ويغلق عليه باب من الحديد أثناء الزيارة قائلا وهو يضحك: أنا غير اسماعين، اذا عضني سي فوكس، معرفش ساعتها ممكن اكتب ايه.
وكان اللقاء بين ام كلثوم ونجم لقاء في غاية الطرافة ضحكت ام كلثوم فيه كثيرا وطلبت من نجم ان يلقي عليها بعض قصائده مؤكدة انه شاعر من طراز فريد وكلماته تقود وحدها لثورة عارمة، ولم تنس ان تنبهه بالتريث فيما يكتبه قائلة: اللي اتعمل في اسماعين في القسم نقطة في بحر م اللي ممكن يتعمل فيك يابو لسان طويل.
فضحك نجم وقال: ياست الكل.. خلاص اخدنا على السجن و«جتنا نحست م الضرب»، لكن برضه مش حاسكت، لساني زي ماقلتي طويل، لكن لو بطلت كلام أموت.. واختتم نجم لقاءه مع الست برباعية جاهين:
يا عندليب ما تخافش من غنوتك
قول شكوتك واحكي على بلوتك
الغنوة مش حتموتك، إنما...
كتم الغنا هو اللي حيموتك
عجبي