مفرح الشمري
لم نكن نتوقع ان تستقطب «جرصة» رفيق علي احمد الحضور الكثيف الذي غصت به قاعة مسرح كيفان مساء امس الاول بعد حملة اعلانية متواضعة من قبل اللجنة المنظمة لمهرجان القرين، وكان تجاوب الجمهور كبيرا مع النص الذي يعتمد على شخصية واحدة على خشبة المسرح تطرح قضية مهمة وحساسة لأبعد الحدود كان التجاوب معها لا يوصف، وهذا بالطبع يرجع الى ذكاء ممثل المونودراما رفيق علي احمد الذي جعل من جسده إيقاعا موسيقيا ومن صوته نغمة شعرية انسانية وجدانية أصابت افكارنا المسيّسة، حيث ذهبت معه الى اماكن بعيدة عن عالمنا العربي ولكنها تصب في قلب الحدث العربي، وهنا نقول ان رفيق علي احمد كاتب ومخرج وبطل هذه «الجرصة» جعل من الخصوصية اللبنانية عمومية عربية تتحدث عن اوجاعنا كما لو كانت جزءا منا، وذلك من خلال احداث مسرحيته التي تدور حول أب لعائلة لبنانية اشتغل في المسرح ووصلت به حالته النفسية الى ان يحدث «جرصة» -فضيحة- بسبب الوضع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الذي آل اليه مجتمعه.
لقد استطاع هذا الممثل المقتدر ان يوصل الينا افكار الصراع اللبناني عبر الزمن بمواقف اجتماعية من خلال ايصال صرخة عن طريق شرفة بيته ليصيح عاليا عن ضعفه وإحباطه الجسدي والإنساني وباح في العلن عن كل ما يؤلمه وما ينغّص حياته محتجا كنموذج لمواطنيه عما يعانيه من ضيق في مجتمع وصلت الحال فيه الى تصنيف الناس حسب اسمائهم.
الصراع الدرامي كان عميقا بين الممثل رفيق علي احمد وزوجته وابنه وابنتيه -رغم اننا لم نشاهدهم- وهذا على ان رفيق علي أحمد قطع اشواطا كبيرة في الكتابة المسرحية لهذا النوع من المسرح وهو مسرح اقتحم المسرح العربي مؤخرا لا بل من تابع اعمال رفيق علي احمد السابقة التي كانت تعتمد على زخرفة الدمى وبعض الشخصيات المركبة وسيلاحظ ان في هذه المسرحية لا شخصيات على المسرح ولا اكسسوارات ايمائية تدل على الصورة التي يريد اظهارها رفيق على المسرح، بل ترك لنا في «جرصة» حرية الحلم والتصور وكم من مرة جعلنا رفيق علي احمد نتخيل الشخوص المركبة التي تحدث عنها ببساطة الفنان المتمكن والعارف للعبة مسرحة المونودراما لذلك لم يعد يهتم بالبذخ الانتاجي الذي يعتمد على الديكور والزخرفة وهو اصبح في هذه المسرحية يعتمد على المسرح الفقير ليجعل من المسرح حالة بسيطة ومتواضعة ليستطيع تقديمها في اي وقت وفي اي زمان وحتى ان قدم رفيق علي احمد مسرحيته هذه في «الشارع» فسينجح في ذلك وبهذا يقدم رسالة واضحة الى المسارح الاهلية والفنانين في الديرة تقول ان المال لا يصنع الابداع بل الهم المسرحي والاهتمام بالنجاح والتميز هي التي تفرض على الفنان ان يكون مبدعا ومن ثم يحصد النجاح والمال خاصة ان مسرحية «جرصة» تكلفتها 150 دولارا وحققت تلك النجاحات.
رفيق علي احمد بعد هذا المشوار الطويل في العمل المسرحي جعل مسرحه واقعيا من خلال الجسد والاحساس الكبير واستطاع ان يجعلهما لغة عالمية يفهمها الجميع وسر ذلك يعود لالتزام رفيق كليا مع نفسه ومشاكل مجتمعه.
أداء رفيق علي احمد المتلون في تقمصه للشخصيات ادخلنا الى عمق الطرح ولم تكن حركته ارتجالية بل كانت مدروسة فلكل حركة عنده لها معنى وهذا ما نفقده في بعض عروضنا المسرحية الآن وساعده في ابداعه بهذا الاداء الجميل الديكور البسيط وحركة الاضاءة التي كانت موظفة جيدا لتخدم احداث المسرحية.
اللافت في مسرحية «جرصة» ان بطلها رفيق علي احمد لم يستخدم إلا زيا واحدا قريبا من زي «الشرطة» رغم ان لونه ابيض وهذا البياض يقصد به رفيق طيبة وسذاجة المواطن العربي المشغول بلقمة العيش وبالطوائف والاحزاب، ويؤكدها رفيق من خلال المواطن اللبناني، حينما اشار الى انه «يفقه بالطائفية والسياسة كفقهه بالطعام»، استطاع رفيق علي احمد من خلال مسرحه الفقير أن يقدم للحضور احداثا جعلتهم «اغنياء» في التعبير عن آلامهم وشجونهم العربية بصوت عال.. «جرصة» رفيق علي احمد .. مدرسة.
الصفحات الفنية في ملف ( pdf )