إعداد: محمد ناصر
أفردت الصحف اللبنانية صفحاتها لغياب الفنان الكبير منصور الرحباني، فعنونت جريدة النهار «منصور الرحباني رجل صنع لنا فضاء» وكتب نزيه خاطر على صفحتها الاولى: لغيابه الرايات السود. ولصورته المروج الخضر، ولقامته في العين رجل يختزن رجالا، لكأن الكبير منصور الرحباني رحل على غفلة ممن احترفوا التمتع بطلاته المكهربة: ألم يكن من حجر صوان ذاك الوجه المصقول في معجم الاساطير؟ وكنت ممن يحبون التعامل معه أنه كأيقونة المعابد الاثرية، هنا ليبقى، ولنستمر نحن خارج الاماكن التي كان يواعدنا فيها وبعيدا من غبار الازمنة وثقوب العمر، في زيارته مرة كل عام كما هذا العام في كازينو لبنان حيث روى لنا بلباقته المحببة ومن خلال خرافة يبرع في ابتكار ركائزها «عودة الفينيق» التي تتظاهر في حكاة الماضي لتلفتنا كلبنانيين وعرب الى واقعنا ومستقبلنا.
فجأة مشهد يكتمل في: عاصي ومنصور معا تحت عنوان «الاخوين رحباني» تبعه شعور قوي باستعادة الاسطورة كل وجهها الحارق. فلبس تلاشى وطروحات عمن الافضل بينهما تبخرت، لدي على الاقل وموقتا هنا، لا لم يمت منصور الرحباني فأمثاله لا يموتون، لكنني على يقين على طريقتي انه كلما فتحت صباحا احدى الاذاعات اللبنانية وتصاعدت اصوات فيروز أو نصري شمس الدين او هدى حداد او اي لحن من ألحان العروض المسرحية التي قالت لبنان بين 1957 («ايام الحصاد» بعلبك) و2008 («عودة الفينيق»، كازينو لبنان)، تكون في مخيلتي وجه من الذاكرة لرجل صنع لنا فضاء يفرحنا، يطيرنا، يأخذنا الى أبعد وأعمق مما حولنا، وكمن يولد من جديد مع يوم جديد.
أما جريدة السفير فعنونت على صفحتها الاولى «منصور الرحباني.. سقوط الأعمدة» وكتب عباس بيضون:
في موسم الموت العادي يتسلل منصور الرحباني من بيننا، لكن واحدا في وزن الرحباني لا يمكن ان يمر غير ملحوظ. مهما تنكر لبنان الحالي لتأسيسه ومهما بدا هذا التأسيس بعيدا فان الفوضى الراهنة لا تمنعنا من ان نرى فيه نموذجنا الاول. انطفاء منصور الرحباني لذلك، وفي اي ظرف كان، هزة في تاريخنا، لا أقول في فننا فحسب، فإن أعمال الأخوين رحباني لم تدخل في باب الفن وحده بل هي جزء من الحلم اللبناني والحضور اللبناني وإذا زدنا قلنا انها جزء من الجمهورية ومن الحداثة والدور اللبناني العربي والعالمي. كان منصور أحد اثنين اجتمعا في اسم «الأخوين رحباني» وبموته تكون واحدة من اكبر عماراتنا الفنية والثقافية قد باتت نهائيا احدى صفحات التاريخ. ظل لبنان وعدا في اعمال الرحبانيين، وهذا الوعد بشر العرب جميعا بحياة موازية وبيوم جديد، خلق الاثنان عالمهما الخاص وبات هذا العالم بسرعة دعوة إلى المستقبل.
إن الاثنين قدما للبنانيين والعرب ما يكفيهم، الكلمة والنغم والفرجة، فلم يتركا لهم إلا الخروج من النص الرحباني الى النغم الرحباني الى الصوت الرحباني الى الفرجة الرحبانية.
كثيرون أحبوا بكلمات الرحبانيين وفكروا بدعاوى الرحبانيين وسهروا وسمروا ولبسوا وتكلموا على الطريقة الرحبانية، لقد صنعوا حلما، لفرط ما تجسد وتواتر كاد يغدو حقيقة ولفرط ما صارع الواقع كاد يبدو بديله.
تساءل كثيرون عن حصة عاصي وحصة منصور في العمل الذي شاء الاثنان ان يبقى واحدا، كان في هذا السعي قدر من التلصص لم يحترم ارادة الرجلين. لا يهم، انها عمارة وستبقى عمارة، صنعاها لتشمل مجتمعها كاملا. وما صنعه الرحابنة أشبه بما صنعه جبران. لقد قلبا جملتنا وكلامنا، في الحقيقة قلبا حساسيتنا. اننا بفضلهما نملك أذنا جديدة وربما جلد جديد وبالتأكيد ذوق آخر. ربما لم يكن كل ذلك بالأصالة نفسها، ربما كان بعضه مبهرا فحسب لكن، كما صنع جبران، امتلك الرحبانيان تلك القدرة على بناء عالم. كتبت لفيروز بفضل زياد حياة ثانية. أما منصور فبقي التوأم «الأخوان رحباني» منفردا. واليوم مع غيابه نقول بحسرة: لقد تمت القدرة، لقد ختمت الأسطورة.
أما جريدة الاخبار فقد استوحت من ديوانه عنوانها: «منصور الرحباني يسافر وحده ملكا والأسطورة الرحبانية تسترد آخر رموزها».
وكتب بيار أبي صعب: كنا نذهب في السنوات الأخيرة الى المؤتمرات الصحافية لرؤيته. نجده جالسا الى المنصة، وقد ازدادت عليه آثار العمر وأمارات الوهن. نتذكره الآن مطرق الرأس، متأملا أو شاردا او مصغيا الى المداخلات والأسئلة التي تخرجه من هدوئه احيانا، يحيط به مدير مهرجان الصيف الذي يقدم مسرحيته الغنائية الجديدة، وممثل وزاة الثقافة، والنقيبان (الصحافة والمحررين) أو أحدهما، وغالبا ابنه مروان.. وفي وقت من الأوقات ـ كان علينا أن نترصده بعناية ـ يمسك «الأستاذ منصور» بورقة، ويروح يقرأ، بصوته الشهير، تقديما شاعريا للعمل الذي اعده مع قبيلته الصغيرة التي باتت تعرف بـ «الرحابنة الجدد».
كل مرة كنا نكتشف قبل الآخرين، إنتاجا «رحبانيا» آخر، مع موكبه من النجوم، والاستعارات التاريخية والأدبية والأسطورية، والإحالات السياسية المبطنة، سيشغل النقد والإعلام والجمهور موسما كاملا وغالبا أبعد منه: كما هي الحال اليوم مع آخر أعماله «عودة الفينيق»، المسرحية الغنائية التاريخية الراقصة التي افتتحها في بيبلوس الصيف الماضي، لاتزال تقدم على خشبة كازينو لبنان.
وكل مرة، كنا نقمع في داخلنا سؤالا ملحا يتبادر إلى الذهن بشكل لا إرادي، ولا تجرؤ على سماعه أو الإجابة عنه: ترى هل هذا هو «لقاؤنا» الاخير بهذ الاسد العجوز؟
بدورها افردت جريدة المستقبل صفحتين كاملتين تضمنتا كلمات رثاء لكبار الشعراء والمسرحيين والفنانين اللبنانيين كطلال حيدر، إيلي شويري وحلمي بكر وغيرهم من الذين سننشر كلماتهم في رثاء الرحباني.
جريدة الديار أخذت من عنوان مسرحيته الأخيرة عنوانها الرئيسي «عودة الفينيق إلى عاصي» أما «صدى البلد» فعنونت «عاش ملكا وسافر وحده ملكا»
تغطية خاصة في ملف ( pdf )