خلود أبوالمجد
ضمن أنشطة مهرجان «صيفي ثقافي 9» الذي يقيمه المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب وبرعاية الأمين العام المساعد لشؤون الثقافة د.بدر الدويش والقنصل اللبناني طوني رعد عرض مساء أمس الأول ضمن الليالي اللبنانية في المهرجان فيلم «تاكسي البلد»، حيث نقل المخرج اللبناني دانيال جوزيف برائحة عبق الصنوبر والأرز الجميل قصة فيلمه الذي قام ببطولته الفنان طلال الجردي، الذي جال في شوارع بيروت بسيارته العتيقة التي مثلت جمال وعظمة تاريخ هذا البلد في قدرته على الصمود، أمام كل التحديات والظروف التي واجهته، وهذه إحدى الرسالات التي مر عليها المخرج دانيال جوزيف في فيلمه، بأن هذا الشعب لا ينهزم ولا يشيخ رغم ما يمر عليه من أزمات أو محن.
حمل الفيلم عددا كبيرا من القضايا التي عرج عليها المخرج بشكل سريع من خلال سائق التاكسي الذي هبط من قريته (ضيعته) بعد وفاة والدته، ليحاول إيجاد عمل مناسب له في المدينة إلى أن تأتيه الفرصة ليحصل على الفيزا التي يحلم بها للسفر إلى أميركا، فلا يجد أمامه سوى العمل كسائق تاكسي، بعد أن يشتري سيارة موديل 1966 بكل المبلغ المالي الذي يملكه، ويبدأ في التعامل مع جميع أصناف البشر في الحياة، ويدخل في حياتهم ويدخلون في حياته فيشكلون أهدافه ومبادئه فيها، فيضع من خلال تصرفات زبائنه قواعد للحياة، التي عاشها منذ صغره يبحث فيها عن القدوة التي تشكل حياته، فكان «كارلو الضبع» قبضاي حارته الذي سافر للبرازيل أحيانا، ووالده على الرغم من أنه تركه صغيرا جدا في رعاية والدته وهاجر أيضا للولايات المتحدة أحيانا أخرى.
الفيلم بشكل عام على الرغم من جدية القضايا التي حملها، والتي مر عليها المخرج بسرعة شديدة في فيلمه، إلا أنه يدخل السرور على القلب ويجعلك تسترجع ذكرياتك في شوارع وربوع لبنان، سواء من عاشوها وشاهدوها قبل الحرب أو من الجيل الحالي ممن تغلغلوا في شوارعها في الوقت الراهن، فسائق التاكسي الذي يمر عليه كل أطياف البشر يتنقل من مكان إلى آخر، ليعكس لنا واقع البلد الذي يعيش فيه من ازدحام خانق في وقت الذروة والظهيرة، لفضاء تام في ساعات الليل، وما تحمله هذه الساعات من اختلافات بين حياة الكد والتعب أثناء النهار وطوال الأسبوع، لنشاهد حياة الاستمتاع والسهر في آخر الأسبوع في الليل، ليتمكن الجميع من مواصلة حياته وبدء الأسبوع بنشاط، وكل هذا تغلفه الموسيقى التي تغلغلت في كيان الشعب اللبناني بأصوات عدد من فنانيه الكبار، مثل فيروز وأعمالها الخالدة مع الرحابنة، وزكي ناصيف ونصري شمس الدين ووديع الصافي والشحرورة صباح، وصولا للفنانين الشباب عاصي الحلاني ونجوى كرم وغيرهم من الأصوات، فكانت موسيقى الفيلم من هذا النوع الذي يحملك إلى هناك فتجد نفسك تدندن معها وكأنك تحفظها على الرغم من أنها ليست من الأغنيات المحفوظة أو المعروفة لأحد هؤلاء الفنانين السابق ذكرهم، لكنها على نسقها، فتجعلك تتعلق بها وتعيش معها ذكرياتك هناك.
لكن على الرغم من هذا يبقى في داخل كل لبناني حلم الهجرة من هذا البلد العظيم والطموح الى فرصة أفضل، وحياة مختلفة في أحد بلدان المهجر التي توزعوا فيها على مدار سنوات الحرب، وفي فيلم «تاكسي البلد» كانت الولايات المتحدة، التي حلم بها منذ صغره يوسف سائق التاكسي على غرار والده الذي تركه وهو صغير بحجة ذهابه لشراء بعض الحاجيات من بيروت ليرسل رسالة فيما بعد يقول فيها انه رحل إلى أميركا، ويبدأ حلم يوسف يتجسد بعد تعرفه على الفتاة الأميركية التي وصلت للبنان للعمل وظلت مقيمة فيه فحفظت شوارعه وبدأت علاقته بها بأنها أحد زبائنه المميزين التي تتصل به فيذهب يقلها من عملها كمدربة في أحد النوادي الرياضية إلى أن تتطور العلاقة بينهما، فكانت هي السبب في حفظه لشوارع ومناطق بيروت.
من يشاهد الفيلم فسيجد ان المخرج دانيال جوزيف ترك النهاية مفتوحة لتتشكل في عقل ووجدان المشاهد بالشكل الذي يراه، فمن الممكن أن ترى يوسف بطل الفيلم تخلى عن حلم الهجرة وقرر الاستمتاع برفقة زبائنه بحياته في بيروت بعد أن حفظ كل شوارعها، وهناك من يرى أن حلم الهجرة بالنسبة له مازال قائما من خلال صديقته الأميركية التي تعرف عليها وأصبح يقضي كل وقته معها.