رغم اجماع اللبنانيين على حقيقة الأزمة المعيشية والانكماش الاقتصادي وجمود المشاريع الاستثمارية، فان الخلاف لا يزال قائما حول الأسباب التي أدت الى ذلك، فيما يردد البعض مقولة التركة الثقيلة والهدر والفساد، فان البعض الآخر يقابله بالتأكيد على ان سياسة التقشف والضرائب وتجميد الاستثمار وشل الادارة هي السبب الأساسي لما نعانيه اليوم.
وانطلاقا من ذلك، يطرح الخبراء الاقتصاديون بعض الحقائق التي تؤسس لنقاش اقتصادي وعلمي قد تحصن الموقف من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الانمائية القائمة:
1- لا بد من الاعتراف بأن التركة فعلا ثقيلة، اذ لا يمكن لأحد ان ينكر ان الوضع الاقتصادي وضع صعب ومعقد ان كان من ناحية حجم عجز الخزينة وتنامي الدين العام، أم من جهة معدلات الفوائد وعجز الميزان التجاري وتنامي الدين العام، أم من جهة معدلات الفوائد وعجز الميزان التجاري والتباطؤ في النمو الاقتصادي.
وهذا الاعتراف لا ينفي أيضا ان التركة في نهاية العام 1992 كانت ثقيلة أيضا ان لم تكن أثقل من التركة الراهنة، خصوصا الدمار الشامل الذي أصاب البنية التحتية والشلل التام الذي أعاق الادارة العامة، وافتقار البلاد للثقة الخارجية والداخلية، واستفحال التضخم، وتدهور سعر صرف العملة الوطنية واستمرار الفساد.
2- حصول أخطاء كثيرة خلال الحكومات السابقة، كما صرفت طاقات وأموال كثيرة، كان للهدر والفساد وجود فيها، كما حدث تجاوز في تطبيق بعض القوانين والنظم المرعية الاجراء. لكن في المقابل تحققت انجازات كبيرة أبرزها ورشة الانماء والاعمار، وتزامن هذه المرحلة مع فترة انتهاء الحرب والعودة التدريجية الى الشرعية.
3- ان النمو الاقتصادي بدأ يتباطأ منذ العام 95، فيما شكل تنامي الدين العام ومستوى معدلات الفوائد (بالرغم من انخفاضها منذ العام95) عاملين أساسيين في تباطؤ الحركة الاقتصادية والنمو الاقتصادي.
ان عجز الخزينة ونمو الدين العام يشكلان تحديين رئيسيين للاقتصاد اللبناني، وقد يشكلان خطرا محتملا على الاستقرار الاقتصادي في المستقبل، الأمر الذي يحتم على أي حكومة معالجة هذا التحدي دون ان تكون هذه المعالجة هدفا وحيدا للسياسة الاقتصادية للحكومة على حساب روافد الاقتصاد اللبناني الأخرى، وهو أمر من شأنه تعقيد المشكلة المالية وتحويل بعض الحلول المقترحة الى حلول غير مجدية وذات نتيجة معاكسة.
والأهم من ذلك ان رزمة الاجراءات المطروحة في البرنامج الاصلاحي لا تبدو قادرة على تحقيق الأهداف التي وضعتها الحكومة لنفسها. ولذلك نجد الاقتصاد يعاني ركودا حادا دون أمل كبير في حل المشكلة المالية للدولة، ولو أتى الانكماش الاقتصادي كنتيجة مباشرة لتصحيح مالي فعلي، لكان من الممكن الدفاع عن هذه السياسة.
ان تطور الحركة الاقتصادية جعل هدف التصحيح المالي على المدىين القريب والمتوسط هدفا غير قابل للتنفيذ، اذ ان الانكماش الاقتصادي
قلص فعالية الاجراءات المالية التي بدورها عززت الانكماش الاقتصادي.
هذه العوامل تطرح مسألة النمو الاقتصادي وضرورة تحفيزه قبل البدء بتخفيض العجز والسيطرة على الدين العام، ذلك انه مع استمرار اهمال النمو لا أمل من أي برنامج للتصحيح المالي في غياب النمو الاقتصادي.
واليوم وبعد سنوات على سياسة الحكومات التقشفية ومحاولاتها السيطرة على العجز ونمو الدين العام، هناك اجماع على ثلاثة أهداف اقتصادية قادرة على مواجهة التحديات التي تعصف بالاقتصاد اللبناني والتي منها ضرورة الاستمرار في سياسة الاستقرار النقدي وبالتالي المحافظة على استقرار سعر صرف الليرة اللبنانية.
الصفحات الاقتصادية في ملف ( pdf )