زكي عثمان
التضخم شبح بدأ يستشري في مجتمعاتنا ليتغلغل أكثر فأكثر في سياق حياتنا اليومية، حتى ان الخبراء الاقتصاديين عجزوا عن معرفة اسبابه الحقيقية أو متى سينتهي، لدرجة انه يلتهم ميزانية الأسر دون ان يردعه احد، فعلى مدى العامين الماضيين بدأت وتيرة ارتفاع اسعار المواد الغذائية الأساسية التي هي غذاء الفقراء ومتوسطي الدخل تأخذ مسيرتها ارتفاعا بنسب متسارعة لم يشهدها العالم خلال قرن الأحداث الكبرى المنصرم، على الرغم من الكوارث التي حلت بالبشرية في ذلك القرن.
وحسب دراسة قام بها فريق عمل الموقع الالكتروني «محيط» فان هذه القفزات القياسية في الأسعار امتدت بالطبع الى بلاد العرب، وكان ومازال وقعها أشد أثرا على العرب الذين من بين عدد سكانهم البالغ 300 مليون نسمة هناك أكثر من 76 مليون فقير، وحول هذا الموضوع كان لنا هذا التحقيق.
وهنا تؤكد التقارير الاقتصادية أن السعودية على سبيل المثال قد تأثرت بالتضخم العالمي والمحلي، اذ شهدت فئة النفقات والخدمات الأخرى، التي تشمل أسعار المجوهرات والفنادق، تضخما بنسبة 7.7% في عام 2006، وواصلت الزيادة في عام 2007 الى جانب تراجع الريال مقابل عملات العديد من شركاء الاستيراد الرئيسيين له أيضا التأثير ذاته، وذلك عبر زيادة تكاليف الاستيراد، وهكذا تعد مشكلة ارتفاع أسعار تجهيز البيت واحدة من المشكلات القديمة التي تشكل هما اجتماعيا في أوساط المجتمعات العربية، وتسببت في احداث مشكلات اجتماعية أخرى منها، العنوسة، وانحراف الشباب.
وفي ظل ارتفاع نسبة البطالة وزيادة معدل التضخم واجر يقل عن 50 دولارا (285 جنيها مصريا) في الشهر نجد في دولة مثل مصر على سبيل المثال يلجأ كثير من الفقراء المقبلين على الزواج لاستئجار الخواتم والأساور الذهبية في حفلات الزفاف.
استيراد دائم
ويستورد العالم العربي أكثر من 90% من حاجاته من الأغذية والمواد الأساسية من الخارج، على الرغم من غناه بمصادر المياه السطحية فعشرات الأنهار تخترق أراضيه ومنها نهر النيل أطول نهر في العالم ونهرا دجلة والفرات وغيرها كثير، كما يمتلك العالم العربي مخزونا ضخما من المياه الجوفية وتسقط على أراضيه كميات وافرة من الأمطار كما يمتلك العالم العربي ملايين الهكتارات من الأراضي الزراعية العالية الخصوبة، لكن هذا الوطن العربي الذي بامكانه أن يكون سلة غذاء متكاملة آلى على نفسه ركوب صهوة الكسل والركون الى الراحة والاستيراد حتى ان ما يستورده من الطماطم وحدها سنويا تتجاوز كلفته 300 مليون دولار.
التضخم بالسعودية
ووصل التضخم في السعودية الى أعلى مستوياته في 27 عاما، حيث وصل الى 8.7% في فبراير، حسب ما ورد في بيان لادارة الاحصائيات المركزية.
ويعتبر رقم فبراير أعلى بقرابة 25% عن معدل التضخم في يناير بنسبة 7%.
وحتى على الرغم من تمتع دول الخليج العربي بطفرة اقتصادية بفضل الارتفاع الكبير في أسعار النفط، الا أن التضخم اصبح يشكل أحد اكبر التحديات أمام هذه الدول.
علاوة على ان اغلب الدول الخليجية تربط عملاتها بالدولار الأميركي، الذي يواصل التراجع في قيمته، مما جعل من الأكثر كلفة في هذه المنطقة ثقيلة الواردات استيراد البضائع من أوروبا وآسيا،
وفي الوقت نفسه فان هذا الارتباط يحرم البنوك المركزية من أداة أساسية لمحاربة التضخم، ألا وهي معدلات الفائدة الأعلى، بل اضطرت الاقتصادات الخليجية الى اتباع تخفيضات معدل الفائدة الأميركية للحفاظ على ارتباطاتها، ويشار الى ان المملكة العربية السعوية والامارات وقطر ودولا خليجية أخرى تفكر في فك ارتباط عملاتها بالدولار الأميركي.
فقد زادت الايجارات في فبراير بنسبة 18% بينما قفزت تكلفة الغذاء والمشروبات بنسبة 13%، ويؤكد الاقتصاديون أن ارتباط السعودية بالدولار هو المسؤول عن زيادة بمقدار 35% من اجمالي التضخم.
ويقول الاقتصاديون في السعودية والامارات ان معدلات التضخم قد ترتفع أكثر مع زيادة الحكومة للانفاق الداخلي واستمرار المملكة في ربط عملتها بالدولار الأميركي الضعيف.
ومن المتوقع ان يرتفع التضخم في السعودية الى 5.2% في عام 2008 مقارنة بحوالي 4.1% في يناير، بيد ان هذه الأرقام من غير المرجح أن تسفر عن اعادة تقييم للعملة السعودية أو فك الارتباط بينها وبين الدولار.
ارتفاع الأسعار بالامارات
كما تشير احدث المؤشرات الاقتصادية لدولة الامارات العربية المتحدة الى ان التضخم سيستمر بلا هوادة وان على واضعي السياسات تبني نهجا ناجحا رغم الظروف لمكافحة ظاهرة ارتفاع الأسعار، وعلى الرغم من كثرة الحديث حول اعادة تقييم الدرهم، الا انه غير المرجح أن يكون له تأثير كبير على مجمل مستويات التضخم.
ويشار الى ان العمال قاموا باعمال شغب مؤخرا في دولة الامارات العربية المتحدة، احتجاجا منهم على تدني الأجور وتراجع القوة الشرائية، كذلك فقد أجبرت الطوابير أمام أفران رغيف العيش المدعوم في مصر الحكومة المصرية على زيادة الانتاج، وهو ما يشكل ضغطا اضافيا على مواردها المالية.
غلاء مصري
وفي مصر تعتبر مواجهة مشكلة ارتفاع كلفة المعيشة مسألة لها أولوية قصوى مع وصول معدل التضخم السنوي الى 12.5% في فبراير في مصر التي يبلغ عدد سكانها 78 مليون نسمة وهي أكبر الدول العربية من حيث عدد السكان.
ويقول الخبير الاقتصادي في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية أحمد النجار ان ارتفاع أسعار الحديد والأسمنت لأكثر من 50 % خلال السنوات الأخيرة دقت أيضا ناقوس الخطر بالنسبة للحكومة.
بينما يقول كبير الاقتصاديين لدى بنك الاستثمار المجموعة المالية- هيرميس في القاهرة سايمون كيتشن ان ارتفاع التضخم يجعل خفض الدعم أكثر خطورة من الناحية السياسية لكن ارتفاع الأسعار العالمية يجعله ضروريا أكثر من أي وقت مضى من الناحية المالية.
ورصدت مصر 80 مليار جنيه (14.6 مليار دولار) للدعم في ميزانية السنة المالية التي تنتهي في يونيو 2008 أي حوالي 9% من الناتج المحلي الاجمالي المتوقع للبلاد، وقد يصرف الدعم الذي يوجه معظمه الى منتجات الطاقة مثل البنزين والديزل الحكومة عن هدفها لخفض عجز الميزانية الى ثلاثة في المائة من الناتج المحلي بحلول 2010-2011.
لكن خفض الدعم سيثير غضب المصريين البسطاء الذين يقول الكثيرون منهم انهم لم يستفيدوا من نمو الاقتصاد.
وقال المحلل لدى فيتش للتصنيفات الائتمانية ريتشارد فوكس بالنظر الى التكلفة الاجمالية لدعم الطاقة في الميزانية فإن الغاءه تدريجيا مكون اساسي لسياسة الانضباط المالي في مصر ومن الواضح ان الأمر سيكون أكثر صعوبة اذا كان التضخم مرتفعا.
ولهذا فقد أخفق نمو الاقتصاد المصري في تعزيز شعبية الحكومة ومن شأن استمرار ارتفاع التضخم ان يسمم أجواء تحرير الاقتصاد، فقد لجأ آلاف العمال الى الاضراب عن العمل على مدى العام المنصرم مطالبين غالبا بزيادة الأجور ومحتجين في بعض الأحيان على احتمال فقدان وظائف من جراء الخصخصة.
وقد ادت هذه الزيادة الى ارتفاع اسعار العقارات في مصر حيث احتل الاستثمار العقاري الأجنبي بها المركز الثالث بـ 11.1 مليار دولار.
معاناة قطرية
بيد أنه تعاني قطر اكثر من غيرها هذه الظاهرة وذلك على خلفية النمو المتميز لاقتصادها (حسب مجموعة الايكونومست البريطانية حقق الناتج المحلي الاجمالي القطري نسبة نمو حقيقية قدرها 7.8% في العام الماضي وذلك بعد خصم عامل التضخم).
كما قد جاء في تقرير لصندوق النقد الدولي ان الاقتصاد القطري عانى نسبة تضخم بلغت 14% في عام 2007.
التضخم عالميا
وزيمبابوي احدى الدول التي تعاني حاليا اعلى معدلات التضخم في العالم والذي قارب الـ 100%، ما حدا بالبعض الى القول ان استخدام النقود الورقية في التجفيف أرخــص من شراء ورق التجفيف نفسه.
وتاريخيا فان معدل التضخم الذي شهدته ألمانيا عام 1923 يعد أعلى معدلات التضخم العالمية.
وحينها كانت الأسعار ترتفع بأربعة أضعاف كل شهر وتخيل النتائج المترتبة على ذلك.
فقد تعلمت ألمانيا من الدرس الذي شهدته قبل 80 عاما لتضع سياسة مشددة تستهدف معدل تضخم أعلى لكي لا يتكرر السيناريو مرة أخرى.
ودول أخرى تنضم الى قائمة الأرقام القياسية لمعدلات التضخم منها العراق والتي تجاوز معدل التضخم فيها 60% كما ان كلا من ليبيا واليمن تبوأتا المرتبة الـ10 والـ 11 بين قائمة أعلى معدلات التضخم في العالم بمعدل يقارب 15%.
الصفحات الاقتصادية في ملف ( pdf )