قد لا يكون تم إعلان حالة ركود للاقتصاد الأميركي بصورة تبين حقيقة الامر أو رسمية ولكنه أمر يزداد وضوحا، حيث كل المؤشرات تدل على انزلاقه إلى الركود.
وتشير أحدث إحصاءات سوق العمل الى قفزة في معدل البطالة، حيث بلغ 5.1% وخسارة 98.000 وظيفة في القطاع الخاص في مارس، ويحدث هذا للشهر الرابع على التوالي.
وهذا ما تشير إليه أيضا احدث المسوحات التي اجريت على قطاعي التصنيع والخدمات.
وهذا ما يشير إليه بين بيرنانك، رئيس مجلس الاحتياط الفيدرالي.
الذي اخبر في الثاني من أبريل لجنة من الكونغرس أنه من غير المحتمل أن «ينمو الناتج كثيرا، إذا نما أصلا، خلال النصف الأول من عام 2008، بل وقد ينكمش بصورة طفيفة».
وعرفت مجموعة من الأكاديميين في المكتب القومي للبحوث الاقتصادية ـ الركود بأنه «انخفاض كبير في النشاط الاقتصادي ينتشر في جميع أنحاء الاقتصاد، ويدوم أكثر من عدة أشهر، بحيث يكون واضحا عادة في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، والدخل الحقيقي، والتوظيف، والإنتاج الصناعي، ومبيعات الجملة والتجزئة».
(خلافا للاعتقاد السائد، فإن الركود لا يتطلب ربعين متتاليين من انخفاض الناتج). ومع أن خبراء المكتب القومي للبحوث الاقتصادية لن يعلنوا ذلك لعدة أشهر، إلا أنه يبدو محتملا بصورة متزايدة أن معاييرهم ستتحقق.
والسؤال الآن هو: أي نوع من الركود سيكون؟ هل هو سطحي أم عميق، قصير أم طويل؟ حتى الآن، يبدو لطيفا بصورة ملحوظة، بالنظر إلى أن الكثيرين يعتقدون أن أميركا تعاني من أسوأ صدمة مالية منذ الكساد الكبير.
ومنذ ديسمبر، يتخلص الاقتصاد من نحو 80.000 وظيفة شهريا. وفي معظم فترات الركود، يعتبر معدل 150.000 - 200.000 طبيعيا.
ولا شك في أن هذا الانكماش ما هو إلا في بدايته.
فمن المؤكد أن سوق العمل سيزداد سوءا مع تخفيض الشركات للوظائف لمواجهة الإنفاق الاستهلاكي الأضعف.
إلا أن الاقتصاد العالمي النشط لا يزال يزيد الصادرات الأميركية، وهناك محفزات مالية على الطريق، وأسعار الفائدة الحقيقية تقارب الصفر ومن المحتمل أن تنخفض أكثر، ومن خلال عملية إنقاذ مصرف بير ستيرنز، منح مجلس الاحتياط الفيدرالي ضمانا ضمنيا لوول ستريت.
لذا، لا يتوقع الكثير من المتنبئين حدوث ركود تام.
ويمكن ان تساهم السياسة المالية المرنة والنقدية في منع تحول الركود إلى كساد، ولم يترك صنّاع السياسة الأميركية مجالا كبيرا للشك في أنهم سيستخدمون كل أسلحتهم في مكافحة الركود بحرية تامة.
والأكثر إثارة للجدل هو مسألة كم من الوقت سيستمر هذا الضعف.
قال بيرنانك للكونغرس ان الوقت لن يطول.
فالنمو سيزداد قوة في النصف الثاني من العام الحالي، مدعوما بأسعار الفائدة المنخفضة والرزمة المالية.
واقترح أنه في عام 2009 سينمو الاقتصاد «عند أو أعلى قليلا» من معدل اتجاهه، الذي يعتقد مجلس الاحتياط الفيدرالي أنه يُقدّر بنحو 2.5%.
ويبدو أن الكثير من المستثمرين يوافقون على أن فترة الانكماش ستكون قصيرة وسطحية أيضا.
فقد انتعشت أسعار الأسهم منذ عملية إنقاذ بير ستيرنز، مع أن الإحصاءات الاقتصادية قاتمة.
وهناك آخرون أكثر تشاؤما، ففي أحدث تقرير للتوقعات الاقتصادية العالمية، الذي تم نشره في التاسع من أبريل، خفض صندوق النقد الدولي توقعاته للاقتصاد الأميركي لهذا العام والعام الذي يليه.
وهو يتوقع الآن أن يتقلص الناتج المحلي الإجمالي في كل ربع من هذا العام.
وبحلول الربع الرابع، سيكون الاقتصاد أقل بنسبة 0.7% من العام الذي سبقه.
(قبل ثلاثة أشهر فقط، كان الصندوق يتوقع ارتفاعا بنسبة 0.9%).
كما ان صندوق النقد الدولي لا يتوقع أن يكون عام 2009 أفضل كثيرا: سينمو الناتج المحلي الإجمالي، ولكن أدنى من معدل اتجاهه.
ومثل هذا الاختلاف الكبير للآراء الاقتصادية الرسمية أمر نادر.
وهو أمر له أهميته.
ففترات الركود السابقة، وفقا لتعريف المكتب القومي للبحوث الاقتصادية، كانت قصيرة وسطحية: دامت فترات الركود للعام 1990-1991 وعام 2001 ثمانية أشهر كل منها، أي أدنى من معدلها لفترة ما بعد الحرب البالغ عشرة أشهر.
وإذا كان مجلس الاحتياط الفيدرالي محقا، فإن ركود عام 2008 قد يكون أقصر وأكثر سطحية.
وإذا كان صندوق النقد الدولي محقا، فسيدوم الضعف فترة أطول هذه المرة.
وسيتم انتخاب الرئيس الأميركي الجديد على خلفية الاقتصاد المتقلص، وعند توليه منصبه سيواجه أشهرا من الضيق الاقتصادي.
وهذا بدوره سيعني حالات عجز أكبر في الميزانية، ويعيد تشكيل نقاشات السياسة المحلية المهمة في العام المقبل: فيما إذا كان يجب تقليل الاقتطاعات الضريبية لجورج بوش للأغنياء مثلا، ومدى إصلاح الرعاية الصحية.
وقد يغذي هذا المشاعر الحمائية والشعبية، خاصة لأن الأميركيين ضاقوا ذرعا بالفعل من الأوضاع.
ووجد استطلاع جديد لقناة cbs وصحيفة نيويورك تايمز أن ثمانية من بين كل عشرة أشخاص يعتقدون أن الدولة تسير «على الطريق الخاطئ».
وتعتمد مدة الآثار المترتبة عليه على عدة أمور، من قوة الاقتصادات الأجنبية إلى درجة تقليص الشركات الأميركية للوظائف والاستثمار.
ولكن على أعلى القائمة، بالنظر إلى أصول الركود المتمثلة في أزمة العقارات والأزمة الائتمانية، هناك مصير سوق الإسكان ومرونة الإنفاق الاستهلاكي.
وفي الحالتين، لا توحي الاحتمالات بحدوث كارثة بل بمأزق طويل الأمد.
ووفقا للعديد من المقاييس، لا تزال أخبار الإسكان تزداد تشاؤما.
فإنشاءات المساكن الجديدة أدنى من نصف ذروتها، ولا يزال مطورو العقار في تراجع.
ومع أن هذا بدأ بتقليل مخزون المنازل الجديدة غير المُباعة، إلا أن ضعف الطلب يعني أن العرض لا يزال يتجاوز المبيعات بصورة شاسعة.
ولا يزال المخزون في أعلى مستوى له منذ 26 شهرا، عند قيمة مبيعات لمدة 9 أشهر، ومخزون المنازل القائمة الرسمي (الذي يستثني تلك التي تمت استعادة ملكيتها) ليس أقل كثيرا.
ويعني تفوق العرض على الطلب أن الانخفاض في أسعار المنازل في تسارع.
ووفقا لمؤشر ستاندرد بورز/ كيس ـ شيلر، فإن أسعار المنازل أقل بنسبة 13% عن ذروتها.
فقد انخفضت بمعدل سنوي يبلغ 25% خلال الأشهر الثلاثة حتى يناير.
والانخفاض في أسعار المنازل ترك نحو 9 ملايين شخص، أو 10% من جميع أولئك الذين أخذوا قروضا عقارية، يدينون بأكثر من قيمة منازلهم.
ومن بين جميع مقترضي القروض العقارية، هناك 6% متخلفين عن موعد دفعاتهم، ومن بين المقترضين سيئي الائتمان، لايزال 17% متأخرين عن دفع الدفعات المستحقة.
وبدأ المقرضون يحبسون الرهن على أكثر من مليون منزل. ويتوقع المتشائمون أن ترتفع هذه الأرقام بصورة أكبر، مما سيزيد العرض ويخفض الأسعار أكثر.
وهذا محتمل على المدى القصير.
إلا أن هناك بعض بوادر الأمل.
ويبدو أن الطلب قد استقر: منذ نوفمبر، يتقدم إجمالي مبيعات المنازل بمعدل على أساس سنوي يبلغ 5 ملايين أو ما يقارب ذلك.
والأسعار المنخفضة جعلت أسعار المنازل أكثر معقولية. وقد تساعد الإجراءات الحكومية على تخفيف حدة جفاف تمويل القروض العقارية الناشئ عن انهيار سوق سوء الائتمان وتقلص السوق بالنسبة للقروض العقارية الكبيرة (الجامبو) وتخفيض حالات حبس الرهن.
وفي ذروة فترة ازدهار الإسكان عام 2006، كانت القروض غير التقليدية، مثل القروض العقارية سيئة الائتمان أو الجامبو، تدعم نحو 40% من مبيعات المنازل.
واختفى نحو 750 مليار دولار من التمويل مع تقلصها.
وستملأ شركتا فاني ماي وفريدي ماك، وشركتا القروض العقارية العملاقتين المدعومتين من قبل الحكومة في أميركا، جزءا من الثغرة.
وأخيرا، أعلنت إدارة بوش عن تغييرات في قوانين رأسمال هذه المؤسسات، للسماح لها بشراء ما يصل إلى 200 مليار دولار من القروض العقارية.
ويتراكم الزخم السياسي أيضا لمنع ازدياد حالات حبس الرهن.
وفي الوقت الراهن، يناقش الكونغرس بعض الحوافز الضريبية المتواضعة.
إلا أن الفكرة الأكثر طموحا بدأت تحظى بالدعم: أي السماح لإدارة الإسكان الفيدرالية بإعادة تمويل القروض العقارية المضطربة بأسعار مخفضة.
على الرغم من هذه البوادر المشجعة، إلا أن أسعار المنازل ستستمر بالانخفاض إلى أن يتم التخلص من المخزون الفائض.
ويتوقع حتى أكثر المحللين تفاؤلا أن يستمر متوسط أسعار المنازل بالانخفاض هذا العام.
والأسوأ من هذا هو أن انكماش أسعار المنازل ما هو إلا العنصر الأول من سوء الحظ الرباعي الذي يصيب المستهلكين الأميركيين.
والعناصر الثلاثة الأخرى أكثر هي الشروط الائتمانية الأكثر صرامة، وسوق العمل المتدهورة (مع ارتفاع البطالة وتباطؤ الأجور)، وأسعار السلع المرتفعة التي تزيد تكلفة الوقود والغذاء.
وارتفعت أجور القطاع الخاص الأسبوعية بنسبة 3.6% خلال العام حتى مارس، وهي أبطأ وتيرة منذ منتصف عام 2003.
ومن المحتمل أن تضخم الأسعار الاستهلاكي الإجمالي بلغ 4% في الفترة نفسها، لذا فإن الأجور الحقيقية في انخفاض بالنسبة للكثيرين.
وتشير حسابات الاقتصاديين في غولدمان ساش إلى أن التدفق النقدي التقديري الحقيقي للمستهلكين - دخلهم بالإضافة إلى أي ائتمان جديد ناقص خدمة الدين والإنفاق على الضروريات - يتقلص منذ أواخر العام الماضي.
وليس من المستغرب أن يشعر الأميركيون بالاكتئاب في مواجهة كل هذا.
والجزء المستقبلي من مقياس مجلس المؤتمر لثقة المستهلكين منخفض بصورة غير مشهودة منذ ركود عام 1973.
ومؤشرات الضائقة المالية خارج نطاق الإسكان، مثل الديون المستحقة غير المدفوعة لقروض السيارات والبطاقات الائتمانية، في ارتفاع.
وانهار الإنفاق الاستهلاكي بعد سنوات من النشاط. ولا يتفق جميع الاقتصاديين مع وجهة نظر صندوق النقد الدولي في أن الإنفاق آخذ فعلا بالانخفاض، ولكن لا أحد منهم يشك في أنه، في أحسن الأحوال، لا ينمو.
ولأنه يشكل 70% من إجمالي الطلب، فإن ضعفه يساعد كثيرا في تفسير سبب دخول الاقتصاد في الركود.
ووفقا لجميع المقاييس الأربعة - أسعار المنازل، الائتمان، سوق العمل، أسعار الوقود والغذاء - من المرجح أن يزيد وضع المستهلكين سوءا في الأشهر المقبلة.
ولا شك أن الحوافز المالية الوشيكة ستكون أمرا مساعدا.
وبين أوائل مايو ومنتصف يوليو سيتم دفع 117 مليار دولار كخصومات ضريبية.
وستحصل العائلة الأميركية العادية التي لديها طفلان على شيك من الحكومة الأميركية بقيمة 1.800 دولار وستنفق بعضه على الأقل.
ولسوء الحظ، من المرجح أن تظل معظم القوى التي تحبط الإنفاق الاستهلاكي إلى ما بعد فترة طويلة من صرف الشيكات.
وحتى مع الصادرات القوية، من المحتمل أن يكون النمو بطيئا، بحيث لن يزيد الدخول كثيرا أو يقدم دعما كبيرا للتوظيف.
وستساعد السياسة النقدية الأكثر لينا على تلطيف الصدمة ولكنها لن تتمكن من تحاشي تقليل الرفع المالي.
وغالبا ما تكون معايير الإقراض صارمة لسنوات، لا لأشهر، بعد الأزمات الائتمانية.
ووفقا لمعظم التقديرات، تم تخفيض أقل من نصف الخسائر المحتملة في القطاع المالي الأميركي.
وفي هذه الأثناء، ستقلل أسعار المنازل المنخفضة من ثروة مالكي المنازل وضماناتهم المحتملة.
وحتى حين تتوقف أسعار المنازل في النهاية عن الانخفاض، فلن ترتفع بصورة مفاجئة.
وبعد سنوات من استغلال تزايد ثروة الإسكان لتمويل استهلاكها، سيحتاج الأميركيون إلى بناء الثروة بالطرق التقليدية، أي عن طريق زيادة الادخار.
ومعدل ادخار العائلات، البالغ 0.3%، أعلى من نقطة الحضيض التي بلغها في أي وقت، ولكن ليس كثيرا.
ولا أحد يعرف إلى أي مدى، أو إلى متى سيدوم، تدهور الاقتصاد الأميركي.
وتشاؤم صندوق النقد الدولي يستند جزئيا إلى تفسيره للتاريخ.
فالتحليل الذي أجراه الصندوق للأزمات الإسكانية لفترة ما بعد الحرب في الدول الغنية، الذي تم إجراؤه عام 2003، يوحي أن فترات الانهيار تدوم لنحو أربع سنوات وتكون غالبا مصحوبة بأزمات بنكية.
وينتهي الأمر بالاقتصادات بأن تصبح أصغر بنسبة 8% في المتوسط مما كانت ستكون عليه لو استمرت بالنمو بمعدلاتها قبل الأزمة.
وربما ستكون هذه المرة مختلفة، وتختفي الآثار المترتبة في وقت سريع.
ولكن بالنظر إلى حجم النشاط الإسكاني في أميركا والأزمة المالية التي انتجتها الأزمة، يبدو أن هذا غير محتمل.
الصفحات الاقتصادية في ملف ( pdf )