تأتي الذكرى الرابعة والاربعون لقرار إنشاء السوق العربية المشتركة غدا (الأربعاء) في ظل تحديات وتغيرات اقتصادية عالمية وإقليمية تواجهها الاقتصاديات العربية تتطلب التكامل الاقتصادي العربي باعتباره بديلا حتميا لمواجهتها من خلال اعادة التوازن الى الاقتصاد القومي وتحريره من القيود وانفتاحه على الخارج.
ومن أبرز التحديات التي تواجه انشاء السوق العربية المشتركة هي انخفاض التجارة البينية العربية، عدم وجود شبكة نقل ومواصلات بين الدول العربية، ضعف اقتصاديات بعض الدول، ظهور أسواق عربية على هامش السوق العربية المشتركة، تماثل الانتاج في الدول العربية، ضعف آلية تنفيذ الاتفاقيات التي يتم التوقيع عليها وعدم وجود خطة عربية شاملة في المجال الاقتصادي.
وتتطلب تلك التحديات إعادة المناخ لعمل عربي مشترك يعيد الاعتبار لمشروعات التكامل الاقتصادي العربي وفي مقدمتها مشروع السوق العربية التي اتخذ قرار انشائها عام 1964 وظلت متعثرة في التطبيق.
وهذا يستلزم في رأي المتخصصين المبادرة الى وضع خطة قومية جديدة للعمل الاقتصادي تكون أكثر واقعية وتكرس احياء السوق العربية المشتركة وهو ما ستركز عليه القمة الاقتصادية في يناير القادم.
وتعني إحياء السوق العربية المشتركة في رأي المتخصصين التغلب على المعوقات التي حالت دون نجاحها وفي نفس الوقت الاخذ في الاعتبار بالتغيرات الاقليمية والدولية وآثارها على المنطقة العربية.
وتعتبر اقامة منطقة التجارة الحرة العربية مرحلة من مراحل إحياء السوق العربية المشتركة على أسس جديدة وكأحد حلقات تحقيق التكامل الاقتصادي العربي المنشود وذلك بالتركيز عل جذب الاستثمارات العربية الى داخل المنطقة العربية.
وتشير تجربة التعاون الاقتصادي في مجال الاستثمار العربي – العربي (الاستثمارات البينية العربية) الى أن تدفق الاستثمارات العربية داخل المنطقة العربية كان ضعيفا بالمقارنة بحجم الاستثمار العربي خارج المنطقة العربية اذ يتم توظيف حوالي 800 مليار دولار من الاستثمارات العربية في آسيا وأميركا وأوربا وغيرها من الدول المتقدمة.
و يبلغ حجم الاستثمارات البينية العربية 2% من الناتج المحلي الاجمالي العربي ويعود ذلك الى عدم ملائمة مناخ الاستثمار العربي في مجموعه لجذب الاستثمارات بشكل كبير مع ضعف القدرة الاستيعابية للاسواق العربية لحجم الفوائض العربية الكبيرة، وايضا المخاطر السياسية والتجارية وغير التجارية.
وفي مقدمة المقترحات العملية التي تساعد على تشجيع الاستثمار في المنطقة العربية هي احياء وتنشيط السوق العربية المشتركة التي تهدف الى تعزيز وتوسيع العلاقات التجارية بين الدول العربية من خلال ازالة الحواجز الجمركية وتذليل العوائق المتصلة بالانتاج ومنها الاعلان الرباعي للسوق المشتركة بين مصر والعراق وسورية وليبيا.
وأهمية السوق العربية المشتركة تكمن في تشجيع الاستثمار البيني بين الاقطار العربية بغية اعادة الاستثمارات العربية المهاجرة التي تلعب دورا في جذبها واستقرارها ودعم عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية من خلال استقطاب رؤوس الاموال والاستثمارات العربية من دول متقدمة وخلق فرص عمل جديدة.
وتأتي ذكرى انشاء السوق العربية المشتركة لتثبت أن العالم العربي كان لديه النظرة البعيدة والرؤية الثاقبة نظريا ولكنه كان قاصرا عن الخروج بها الى حيز الواقع وترجمتها الى حقيقة نتيجة للعواصف الاقتصادية التي تعرضت لها.
وتتمثل أهم هذه العواصف في ظهور أسواق عربية على هوامش السوق العربية المشتركة ترعاها بالدرجة الاولى جامعة الدول العربية، فهناك تنسيق على المستوى الاقتصادي لدول مجلس التعاون الخليجي وأيضا لدول المغرب العربي وتوجد منظمة الاقطار العربية المصدرة للنفط فهذا التباين يؤدي الى عقبات امام السوق العربية المشتركة.
ومن العواصف التي تعترض إقامة السوق العربية أيضا ضعف الاقتصادات ذات الانتاجية المتدنية التي لا تستطيع ان تعتمد على بعضها في تلبية حاجاتها من السلع الاستهلاكية أو الضرورية الخاصة بالمشاريع التنموية التي تحتاج اليها قطاعات الزراعة والصناعة.
ويرى المتخصصون أن الغاء الحواجز الجمركية بين دول السوق العربية المشتركة لا يعتبر شرطا كافيا لاقامة سوق عربية اذ ان الحد الادنى المطلوب لذلك هو التجانس على الاقل بين هذه الاقتصادات وتنسيق السياسات الاقتصادية مع اتباع حركة تنمية للقطاعين الزراعي والصناعي وايجاد نوع من الثقة المتبادلة مع تبادل للمعلومات وتوزيع عادل لمزايا الاندماج الاقتصادي.
ومن العوائق التي يجمع الاقتصاديون عليها بالاضافة الى تماثل الانتاج والمنتجات في هذه الدول أنه ما زالت المواد الاولية وعلى رأسها النفط تشكل العمود الفقري لصادرات العديد من الدول العربية وهذه المواد تصدر بمعظمها الى الخارج ولا يمكن أن تستوعبها حاليا الاسواق العربية لذا فان التجارة العربية البينية ستظل منخفضة ومحدودة.
كما أن عدم وجود شبكة مواصلات ونقل بين الدول العربية وعدم وجود مناخ استثماري ملائم لأي دولة عربية يعد من العوائق لاقامة السوق العربية فبالرغم من كل قوانين تشجيع الاستثمار الصادرة في الدول العربية فان 10.3% فقط من أموال العرب الموجودة في الخارج عادت الى العالم العربي.
ويرى فريق من المحللين أن ضعف آلية تنفيذ الاتفاقيات التي يتم التوقيع عليها وعدم وجود خطة عربية شاملة في المجال الاقتصادي لا تتعارض مع الخطط القطرية، من المعوقات لقيام السوق العربية، وفي هذا الاطار يقول احد الباحثين ان العرب ينطلقون من المبدأ السياسي للوصول الى الهدف الاقتصادي بينما آخرون ينطلقون من الاهداف الاقتصادية للوصول الى المصالح السياسية.
ومع ذكرى انشاء السوق العربية المشتركة، لاتزال هناك مشاكل تواجه التطبيق الفعلي للبرنامج التنفيذي للمنطقة العربية للتجارة الحرة وتتمثل في إصرار العديد من الدول العربية على فرض قيود غير جمركية على الكثير من السلع ولجوء البعض الاخر الى فرض حظر على استيراد بعض المنتجات الزراعية من الدول العربية الاعضاء، بالاضافة الى ضآلة التجارة العربية البينية والتدخل الحكومي في اقتصاديات الدول العربية كلها عناصر تقلل من نجاح منطقة التجارة العربية.
وتشير الارقام الى تراجع نسبة التجارة البينية العربية فقد تراجعت نسبة هذه التجارة الى اجمالي التجارة العربية مع العالم من 9.5% عام 2002 الى 9.1% عام 2003 طبقا لما ورد بالتقرير الاقتصادي العربي الموحد عام 2004 وعلى الرغم من زيادة التجارة العربية البينية والتي بلغت 36 مليار دولار عام 2005 مقابل 6 مليارات عام 2004 الا انها مازالت نسبة ضئيلة من حجم تجارة الدول العربية مع العالم الخارجي الذي تخطى 420 مليار دولار عام 2005.
وتشير التقارير الاقتصادية الى أن ما تحقق في اطار منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى من الغاء للتعريفة الجمركية على السلع المتبادلة بين 17 دولة عربية لا يعني زيادة التجارة البينية بين الدول العربية بطريقة تلقائية.
وعلى الرغم من هذه الظروف الا أن هناك العديد من الاجراءات التي تتخذها الدول العربية لازالة العديد من المعوقات مثل أخذ معظم الدول العربية ببرنامج للاصلاح الاقتصادي الى جانب الالتزام بمبادئ اتفاقيات منظمة التجارة العالمية وهو ما يعني القضاء على السياسات الحمائية التي كانت تطبق في معظم الدول العربية.
ومن الاجراءات التي تم اتخاذها ايضا لازالة المعوقات ما تم تحقيقه في مجال تنويع اقتصادات دول الخليج العربي وبقية الدول العربية وتراجع أهمية النفط والسلع الزراعية الرئيسية في الصادرات العربية لصالح المنتجات الصناعية فكلها نتائج ايجابية تم تحقيقها بالاضافة الى قدرة الدول العربية على التحرير الكامل للتبادل التجاري العربي من الرسوم الجمركية والقيود الضرائبية كافة في ظل تنظيم قواعد المنافسة العادلة.
وقد ظلت السوق العربية في حالة تطبيق جيدة وبمستوى عال من الالتزام في السنوات الاولى من عهدها ثم حدث تباطؤ في التطبيق لظروف وأسباب خاصة مع نشوب أزمات واختلافات ثنائية بين الدول العربية فانعكس ذلك سلبا على مبدأ التطبيق.
وفي المراحل الاولى لتطبيق احكام اتفاقية دول السوق ارتفع حجم المبادلات التجارية بين هذه الدول، فقد كان حجم التجارة البينية بين هذه الدول عام 1965 حوالي 97 مليون دولار ليرتفع هذا الرقم عام 1975 الى 1.2 مليار على الرغم من ضعف الهياكل الانتاجية لهذه الدول ثم ما لبث أن انخفض هذا الرقم عام 1989 الى 788 مليون دولار والى 699 مليون دولار عام 94 وحدث هذا الانخفاض في حجم المبادلات بين دول السوق بالرغم من نمو وتنوع هياكلها الانتاجية.
ويستهدف قرار انشاء السوق العربية من حيث المبدأ ارساء قواعد التكامل الاقتصادي العربي وصولا الى الوحدة الاقتصادية الكاملة، وقد رافق هذه العملية عدة خطوات على جميع الاصعدة من قبل مجلس الوحدة الاقتصادية الذي راعى قرار انشاء السوق اذ اعد دراسات جادة ومقترحات محددة للتنسيق الصناعي ثم اقرار اتفاقيتين لتنمية وحماية الاستثمار وتأسيس أربع شركات عربية برؤوس أموال حكومية في التعدين والدواء والثروة الحيوانية والصناعة.
كما تم اعداد مشروع قانون عربي موحد للشركات المشتركة ووضعت دراسات للتنسيق والربط بين خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية القطرية في اطار جماعي ومشروع مبدئي لاستراتيجية العمل الاقتصادي العربي المشترك.
وفي المجال الفني أنشئ أكثر من عشرين اتحادا تقع في نطاقها عشرات القطاعات ومئات المؤسسات الانتاجية، كما أنشئ المكتب المركزي العربي للاحصاء وقام المجلس باعداد مشروعات مؤسسات لكل من صندوق النقد العربي والمؤسسة العربية لضمان الاستثمار واتفاقيات في المجال الضريبي.
وفي مجال النقل تم اعداد مشروع تنظيم النقل بالعبور (الترانزيت) ومشروع شركة عربية مشتركة للنقل البري، أما فيما يخص القوى العاملة فقد تم اقرار اتفاقيتين في قطاع التأمينات الاجتماعية ومشروع بطاقة شخصية لانتقال الاشخاص بين الدول الاعضاء.
وقام المجلس الاقتصادي العربي المشرف على اتفاقية السوق بتكليف لجنة اقتصادية بتقييم المرحلة التي حققها السوق وتقييم المشروعات المشتركة المطروحة للمرحلة القادمة.
وفي ظل مراجعة لقرار السوق العربية المشتركة ظل المجلس الاقتصادي يتابع تنفيذ الاحكام الخاصة بتحرير التجارة بين الدول الاطراف والتشاور مع الدول الاخرى التي لم تنضم الى السوق للتعرف على الصعوبات التي تحول دون انضمامها وتشكلت لجنة تطوير السوق وعقدت اجتماعا لها في عام 1983 ووضعت عددا من المقترحات التي تؤدي الى تفعيل السوق وتطويرها وأبرزت بعض الصعوبات والمشاكل التي تؤثر على نمو دول السوق ومن ثم على نمو التبادل المتكافئ بينها.
وفي عام 1984 أوصى المجلس الاقتصادي بأن تقوم دول السوق بتطبيق قواعد منطقة التجارة الحرة في مرحلتها الاخيرة أي الاعفاء الكامل من الرسوم والضرائب في عملية التبادل التجاري ولا ينطبق ذلك على الدول الاقل نموا في السوق اذ تتحذ صيغ مرنة لها.
وبدأ ينصب اهتمام الدول العربية على اقامة منطقة التجارة العربية الكبرى والتي اقرها المجلس الاقتصادي الاجتماعي في فبراير 1997 وبدأ العمل بها في أول عام 1998 وهي تنص على تخفيض الرسوم الجمركية على السلع العربية المتبادلة بمعدل 10% سنويا على أن يتم التوصل الى تحرير السلع العربية بالكامل عام 2007.
وأصبحت الآن الاتفاقيات الجديدة بين الدول العربية تدفع جميعها باتجاه تنمية التبادل الاقتصادي العربي والتي أظهرت ضرورة تفعيل السوق العربية المشتركة والتي تمثل في رأي المحللين بتوافر الارادة السياسية لمعرفة قيمة التعاون الاقتصادي العربي وما يعطيه من قوة ودفع للدول العربية على الصعيد العالمي في ظل مشاريع العولمة الاقتصادية وفي ظل التكتلات والمنظمات الاقتصادية العالمية.
الصفحات الاقتصادية في ملف ( pdf )