تناول تقرير شركة مجمعات الأسواق التجارية في تقريرها الشهري الأزمة المالية العالمية حيث طرح التقرير في البداية مجموعة من الأسئلة، هل نحن عشية نظام مالي واقتصادي عالمي جديد؟ هل انتهى تطبيق مفاهيم رأسمالية أسست للعالم الحديث على مدى نحو قرن من الزمن؟ هل يشبه انهيار النظام الرأسمالي في بعض تطبيقاته المالية سقوط النظام الشيوعي أو زوال جدار برلين؟ هل يصح السماع لدعاة الاشتراكية المتجددة على انقاض خسائر أسواق مال العالم بالضربة شبه القاضية؟ ماذا عن دعاة الاقتصاد الاسلامي كبديل؟ هل الأزمة المستمرة فصولا منذ أكثر من سنة تكتب نهاية العولمة كما كانت سائدة لتحل محلها العودة الى الانغلاق والحمائية؟ هل يصح القول أن شياطين العالم الحديث هم نفر من المهندسين الماليين الذين غرقوا في معادلات رياضيات مالية بحثا عن عوائد لا تستند الى واقع تشغيل؟
وقال التقرير ان هذه الاسئلة وعشرات غيرها تطرح يوميا على مستوى الكويت والعالم لتبقى الأجوبة عليها معلقة على أهداب المقبل من الأيام والأسابيع والشهور وحتى الأعوام، مبينا ان التقرير يحاول طرح القضية لا لحلها، بل لإلقاء الضوء على بعض جوانبها لا الادعاء برسم كل الحدود والمعالم وتحديد الأطر كأشكال نهائية.
دور الدولة
وذكر التقرير ان الكل متفق اليوم على أن الجديد هو دور الدولة المرحلي في المساعدة على حل الأزمات، فما حصل من تأميم يأخذه دعاة الاشتراكية المتجددة ذريعة ما هو الا جسر عبور من رأسمالية الى أخرى.
فما من أدبيات حول العالم اليوم تتحدث عن أن البلشفية على الطريقة السوفيتية القديمة هي الحل.
لا، أبدا. فالحلول تمر عبر اعادة رسملة القطاع الخاص لينهض من كبوته. اعادة تزييت الماكينة بالمال بعدما جف هذا الزيت لسبب أو لآخر.
وكما يقع اللوم على المهندسين الماليين الذين فشلوا فشلا ذريعا في ادارة المخاطر، يقع هذا اللوم أيضا بنفس الدرجة او ربما اكثر على دور الدولة في الاجراءات والقوانين التي نفذ منها هؤلاء الى فضاء المضاربة شبه المدمرة.
اذا، ثمة مشكلة تكمن في القوانين والاجراءات.
فما كنا نعتقده مجالا خصبا للازدهار المالي والاقتصادي في فتح الحريات على مصاريعها تحول الى كابوس لم نستفق منه بعد.
وما يحصل على مستوى الدول الغنية من نقاشات سواء على مستوى قمم الرؤساء او في أروقة صالونات اصحاب القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي ينضح فكرا جديدا لفكر الدولة وممارساتها ودورها.
وفي حمأة كل ذلك، ثمة قاسم مشترك يتردد دائما هو كيف العمل من الآن فصاعدا على اجراءات وقوانين تمنع حصول ما حصل؟
اذا نحن أمام اعادة صياغة لدور الدولة وليس عودة تكريس الدولة المالكة والمحولة لمواطنيها الى رعية وحسب.
وحتى لا يستمر الحديث نظريا، فلنأخذ الكويت مثالا حيا.
فقد كانت البلاد تعيش منذ سنوات مرحلة ارهاصات لصوغ دور الدولة على أسس رأسمالية حديثة تسود فيها عدالة تكافؤ الفرص والتنافسية الحقة واطلاق طاقات القطاع الخاص من عقالها.
وكنا قد بدأنا بالنجاح نسبيا الى أن تعكر صفو المسيرة لأسباب يضيق المجال لذكرها.
وبالعودة الى الازمة فإن دور الدولة المطلوب ليس كما يصوره البعض على أنه شطب مديونيات وتوزيع هدايا ذات اليمين وذات اليسار لاسيما على من أساء ادارة مخاطره.
الدور المطلوب هو اعادة التوازن لآلة فقدت صوابها ليس محليا وحسب بل عالميا. ان ما نشهده حاليا من معالجات لا يرقى الى دور الدولة المنشود.
فهناك هياكل دولة ومؤسسات دولة، لكن ليس هناك آلية مستدامة تربط المعالجات في منظور شامل. فلولا السلطة السياسية وقرارها بفعل شيء ما لكنا مستمرين في شد اللحاف كل منا باتجاهه.
دور الدولة هنا منقوص. ما من أحد حتى الآن استطاع تظهير صورة شاملة.
اذا، الدور مستمر في غيابه وحتى وان كانت مظاهره قائمة، فهي قائمة دون جدوى كبيرة وهنا مكمن الداء.
فكما قلنا سابقا، ليس المطلوب توزيع جوائز ترضية، انما تعبئة الموارد في الصالح العام.
وعندما نقول الصالح العام نعني الدولة في المقام الأول لأنها أكبر مالك، و القطاع الخاص المساهم بنحو 30 الى 35% من القيمة المضافة في الاقتصاد الوطني فضلا عن عموم شرائح المودعين والمستثمرين والمدخرين وحتى الموظفين: مرة جديدة نرى أن تقسيم الأطراف في معسكرات متواجهة غير صحيح، الدولة من جهة والآخرون في أخرى، هذا هراء.
القوانين واللوائح
وبالعودة الى القوانين واللوائح والاجراءات فالعبء الأول ملقى على الدولة بمختلف مؤسساتها التنفيذية والتشريعية.
فكما عانى المجتمع الرأسمالي الغربي من حبل متروك على غاربه في التشريعات السامحة لمضاربات بالمشتقات المالية على نحو هستيرية. اما نحن فنعاني كثرة اللوائح والضوابط وتشابكها حينا وتضاربها أحيانا أخرى حتى أنها تعطل بعضها بعضا وتقعد الجميع عن لعب دوره كاملا بمن فيهم الدولة.
مثال: الصراع حول شروط الادراج مستمر منذ أكثر من 5 سنوات.
حتى ان تلك الشروط تعدلت حينا للتسهيل ثم تعقدت للتصعيب ثم طرحت حلول تسهيلها لنجد أنفسنا اليوم من جديد أمام ضرورات تصعيبها.
مثال آخر: شابت عقود الـ b.o.t على مدى عقد من الزمن ثغرات في اجراءاتها وتراخيصها وتعدد مرجعياتها، حتى لجأ كل واحد الى تقليع شوكه بيديه، فطفح الكيل لتقف تلك المشاريع ويخرج الى النور قانون ولد ميتا لعيوب قاتلة فيه ولدتها ردات الفعل الانتقامية بعيدا عن اي فعل تنموي. فالعيب في الاجراءات اذا.
مثال ثالث: تنازعت جهات رسمية الرقابة على قطاع الاستثمار.
فالترخيص في جهة والميزانيات في أخرى والافصاحات في ثالثة.
تعددت الاجراءات وتضاربت فاذا بنا أمام قطاع هجين مخاطره تكاد تنفجر بوجه الجميع، انها أزمة اجراءات.
مثال رابع: أدخلنا قطاع الاسكان في متاهات المزاد السياسي باجراءات من هنا وموانع من هناك وضوابط أريد منها المساهمة في الحل فاذا بها تصيب من القطاع مقتلا، مرة جديدة نحن أمام أزمة اجراءات.
مثال خامس: نقصت الاجراءات الاستثمارية التحفيزية وزادت تلك المعرقلة حتى هاجرت أموال وطنية لتقع فريسة أزمة مالية عالمية وأخرى مالية وعقارية اقليمية، انها الاجراءات أيضا وأيضا.
إعادة صياغة
الأمثلة لا تنتهي لتدل كلها على أننا في أتون اجراءات ولوائح لابد وأن ينتج عنها أزمات نراها تتفاقم عندما تتكاتف مع عوامل أخرى عالمية.
لكن يفترض بنا ألا نضيع البوصلة ونضع أوزارنا على ظهر غيرنا.
صحيح أن للازمة العالمية تداعيات على العالم كله والكويت ليست جزيرة.
لكن وجدنا أنفسنا من دون تحوط ولا أدوات جاهزة للتخفيف من حدة التأثر. وجدنا أنفسنا نتقاذف الاتهامات على أن الجميع متفق على دور الدولة من دون أن يعرف احد كيف يحدد ذلك. أهو اعادة صياغة للدور، أم اعادة اعتبار له؟ نحن نقول «اعادة صياغة» باتجاه الدولة الراعية.
ما المقصود بـ «الراعية»؟
أن ترعى يعني أن تنظم وتحفظ وتسهر على حسن السير والنظام، أن تشمل بعدالتك الجميع، انه دور الأب في تنشئة اطفاله حتى البلوغ مسلحا اياهم بما يفتح الآفاق أمامهم وما يحميهم من تقلبات الزمن. انها كلمات بسيطة لكنها ذات معان عميقة فيما لو جعلنا الاسقاطات واقعية غير عاطفية.
الدولة الراعية بقوانين عادلة شفافة أولا. باجراءات تكفل تكافؤ الفرص أمام الجميع، ولوائح تحفز ولا تعرقل وضوابط تكبح الاستغلال السيئ تاركة فسحة للابداع الايجابي. فالدولة الراعية في علاقة تفاعلية مع مكونات مجتمعها على مختلف أطيافها على قاعدة لكل مجتهد نصيب، والمتقاعس نحفزه والمخالف نؤدبه لإصلاحه لا لإسقاطه من أي حساب.
واذا عدنا الى المعالجات الحكومية السارية بالفتات حاليا ماذا نجد؟ ما من رؤية شاملة على أساس الدولة الراعية.
فإذا كانت سدة القرار السياسي على بينة من بعضنا فإنها تركت للمؤسسات أن تكون على بينة من الجميع. ما يسودها حاليا هو نظام من يصل أولا الى نعيم القرار. ذلك ليس عيبا في الساعين للحصول على دعم الدولة الراعية بل لأن الآليات المؤسسية لتلك الدولة تعمل على طريقة الجزر غير المتصلة لاسيما بالرؤية الشاملة.
مثال: عقدت الهيئة العامة للاستثمار مؤتمرا صحافيا قالت فيه انها على حق فيما اتخذته من اجراءات لأنها مناسبة من دون أن تعبأ كثيرا بتناغم تلك الاجراءات مع أخرى صادرة أو متوقع صدورها من جهات رسمية أخرى ليست ببعيدة عنها. كما عقد محافظ البنك المركزي مؤتمرا قيم فيه ما قام ويقوم به مساهمة منه في حل بعض الازمة تاركا الباب مفتوحا لآخرين لم يذكرهم ولا رسم خارطة انفتاحهم عليه.
في حين تحركت المصارف عبر اتحادها مقدمة ورقة الى المحافظ لبى معظمها واستكانت البنوك فاذا بشركات الاستثمار تصحو هي الاخرى لتضغط بكل اتجاه والقطاعات الاخرى تتحفز ايضا لفعل شيء لا نعرفه بالتحديد بعد لكنها ستتحرك حتما لحماية مصالحها.
انها سياسة شد اللحاف كل باتجاهه.
والمؤسسات الحكومية كأنها تتلذذ في أن تطرق أبوابها فيتدلل أولو الأمر ثم يتحركون كما لو أن في الامر تلبية لاستجداء.
وقمة التضارب كمنت في فريق حكومي جمع ظاهريا الجهات المعنية، فاذا بذلك الفريق الأقل تأثيرا والأكثر بطئا في التحرك والتوصية، والأكثر روتينا. لا لشيء بل لأن في مكونات الفريق جهات تريد كل واحدة منها أن تظهر لوحدها بمظهر أنها تسهم ليكون لها رصيد ما في مكان ما.
مما دفع بغرفة التجارة الى التحرك ناحية صاحب السمو أمير البلاد علما أن الغرفة ممثلة في الفريق الحكومي الذي يرأسه الوزير أحمد باقر الذي اذا سئل عن البورصة والسيولة الحكومية لديها، رد بتحويل العبء الى وزير المالية مصطفى الشمالي الذي هو الاخر اذا سئل عن ضمان الودائع تبرع بالقول الا حاجة من دون اخذ رأي المصارف ولا حتى «المركزي» ، والأخير اذا سئل عن معالجات تعثر شركات الاستثمار رد بضرورة تضافر جهات اخرى لم يسمها.
جزر مؤسسات
وقال التقرير اننا في جزر مؤسسات ولسنا في دولة مؤسسات. مفهوم الدولة الراعية يكتسب كامل معناه اذا رأينا كيف لمؤسسات الدولة أن تهب معا بتناغم وانسجام وتنسيق.
واذا رأينا أن الأمر لا يحتاج لطرق أبواب بطرق شخصية، واذا رأينا أن السلطة السياسية مطمئنة على الدوام الى مؤسساتها غير مضطرة بشكل شبه يومي لتسأل «أين صرنا» وماذا غدا.
خلاصة القول ان الدولة الراعية ليست تلك التي تغرف من المال العام لمصلحة هذا الخاص أو ذاك.
بل هي عبارة عن ساعة سويسرية راقية الصنع يتم تركيبها مرة واحدة في العمر لتدق عقاربها المختلفة بانتظام شديد ودقة عالية.
وغير ذلك يعني أننا أمام ساعة ذات شكل جميل لكنها تقدم حينا وتؤخر حينا آخر.
الصفحات الاقتصادية في ملف ( pdf )