فواز كرامي
أشار التقرير الصادر عن صندوق النقد الدولي عن شهر نوفمبر الماضي الى الضعف المتسارع في آفاق الاقتصاد العالمي والذي يتطلب من السياسات دفعة تنشيطية جديدة اذ ان آفاق النمو العالمي استمرت في التراجع على مدار الشهرين الماضيين، حيث استمر تخفيض نسب التمويل بالديون وتقلصت ثقة المنتجين والمستهلكين.
وعلى ذلك، تشير التوقعات الحالية الى زيادة الناتج العالمي بمقدار 2.2% في عام 2009، بانخفاض يعادل 0.75 نقطة مئوية تقريبا من إجمالي الناتج المحلي مقارنة بالتوقعات الواردة في عدد أكتوبر من تقرير آفاق الاقتصاد العالمي، ومن المتوقع ان ينكمش ناتج الاقتصادات المتقدمة في عام 2009، محسوبا على أساس عام كامل، وهو أول هبوط على هذا النحو في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
أما في الاقتصادات الصاعدة فمن المتوقع ان يتباطأ النمو الى حد كبير وإن كان سيصل الى 5% في عام 2009.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد الى ان هذه التنبؤات تفترض استمرار السياسات المتبعة حاليا، ومما يمكن ان يساعد على الحد من تراجع النمو العالمي اتخاذ اجراءات عالمية لدعم الأسواق المالية وتقديم المزيد من الدفعات التنشيطية المالية والتيسير النقدي.
النشاط العالمي
وبين التقرير انه من المتوقع ان يتباطأ النمو العالمي من 5% في عام 2007 الى 3.75% في عام 2008 والى ما يزيد بقليل على 2% في عام 2009، مع تركز الهبوط في مجموعة الاقتصادات المتقدمة حيث تشير التوقعات الحالية الى انكماش النشاط في الاقتصادات المتقدمة بمقدار 0.25% على أساس سنوي في عام 2009، بانخفاض مقداره 0.75 نقطة مئوية عن توقعات عدد أكتوبر من التقرير.
وسيكون هذا الانكماش السنوي هو الأول في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وإن كان حجم الهبوط الاقتصادي قريب الشبه من حجم حالات الهبوط المماثلة في عامي 1975 و1982 ومن المتوقع ان يبدأ تعافي الاقتصاد في أواخر عام 2009.
وسيلحق الضرر بالاقتصاد الأميركي متأثرا بردود أفعال قطاع الأسر تجاه انكماش قيم الأصول العقارية والمالية وضيق الأوضاع المالية، وفي منطقة اليورو، سيصاب النمو بضرر بالغ من جراء تشديد الأوضاع المالية وانخفاض مستوى الثقة.
أما في اليابان فمن المتوقع ان يتقلص الدعم الذي يستمده النمو من صافي الصادرات.
كما لاحظ التقرير ان التوقعات السابقة لنمو إجمالي الناتج المحلي الحقيقي في عام 2009 خضعت لتخفيض أكبر الى حد ما في حالة الاقتصادات الصاعدة والنامية، بمتوسط 1%.
ويترتب على ذلك معدل نمو مقداره 5% في هذه الاقتصادات، أي أعلى مما كان عليه خلال فترات القاع في الدورات الاقتصادية السابقة (السنوات 1990 و1998 و2001، على سبيل المثال)، غير ان الهبوط الدوري في الاقتصادات الصاعدة يشبه الهبوط في الاقتصادات المتقدمة من حيث الحجم التقريبي عند قياسه نسبة لارتفاع معدلات النمو الاتجاهي، على غرار الوضع في الدورات السابقة.
وهناك تفاوت كبير في درجة تخفيض التوقعات عبر المناطق المختلفة.
ومن أكثر الأطراف تأثرا في هذا الخصوص البلدان المصدرة للسلع الأولية – بسبب التخفيض الحاد الذي طرأ على التوقعات الموضوعة لأسعار هذه السلع – والبلدان التي تمر بمشكلات حادة في التمويل الخارجي ومستوى السيولة.
وكانت التخفيضات أقل بشكل عام في حالة بلدان شرق آسيا – بما فيها الصين – نظرا للقوة المعتادة التي تتميز بها أوضاعها المالية، ولأنها استفادت من تحسن معدلات التبادل التجاري بسبب تراجع أسعار السلع، وكذلك لأنها بادرت بالتحول فعليا نحو تيسير سياساتها الاقتصادية الكلية.
الاحتمالات المتوقعة
يعمل التقلص المستمر في الطلب العالمي على تخفيض أسعار السلع الأولية، فقد شهدت أسعار النفط انخفاضا بنسبة تجاوزت 50% منذ آخر ذروة بلغتها أخيرا، حتى سجلت مستويات غير مسبوقة منذ أوائل 2007 – متأثرة بالهبوط الملحوظ في الاقتصاد العالمي وارتفاع سعر الدولار الأميركي ووقوع الأزمة المالية – بالرغم من قرار تخفيض الانتاج الذي اتخذته منظمة البلدان المصدرة للنفط (أوپيك).
وتماشيا مع تطورات السوق، خفض صندوق النقد الدولي سعر النفط المتوقع في السيناريو الأساسي لعام 2009 عما كان عليه في عدد أكتوبر من تقرير «آفاق الاقتصاد العالمي»، من 100 دولار/ برميل الى 68 دولارا/ برميل.
وبالمثل، هبطت أسعار المعادن والأغذية من مستويات الذروة التي بلغتها أخيرا. وبينما تؤدي هذه التطورات الى تخفيف العبء عن الأسر في الاقتصادات المتقدمة والاقتصادات الصاعدة الأوروبية والآسيوية، إلا أنها تخفض في الوقت نفسه احتمالات النمو في كثير من الاقتصادات الصاعدة الأخرى.
وسيساعد اقتران تثبيت أسعار السلع الأولية بزيادة التباطؤ الاقتصادي على احتواء الضغوط التضخمية، ففي الاقتصادات المتقدمة، يُتوقع ان ينخفض التضخم الكلي الى أقل من 1.5% مع نهاية عام 2009، كذلك يُتوقع حدوث بعض الانخفاض في معدلات التضخم في الاقتصادات الصاعدة، وإن تم ذلك بشكل أكثر تدرجا.
غير ان مخاطر التضخم لاتزال واضحة في عدد من هذه البلدان، حيث أدى ارتفاع أسعار السلع الأولية واستمرار الضغوط على العرض المحلي الى تأثر المطالبات برفع الأجور وتوقعات التضخم. بحسب التقرير.
الأزمة المالية
دخلت الأسواق حلقة مفرغة من التـــــخفيضات في نسب الرفع المالي، وتراجع الأسعار، وسحب المستثمرين لأمـــــوالهم المستثمرة، وحدث ارتفاع حاد ومفاجئ في فروق العائد حتى بلغت مستويات حرجة، وهبطت مؤشرات أسعار الأسهم الأساسية بنسبة 24% تقريبا في شهر أكتوبر.
وكانت الضغوط أشد بكثير في حالة الأسواق الصاعدة، حيث تضاعفت فروق العائد على سندات الدين السيادي منذ بداية أكتوبر حتى عادت الى مستويات عام 2002، فكان تداول هذه السندات في أكثر من ثلث البلدان التي يغطيها مــــؤشر أسواق السندات الصاعدة الـــــعالمي embig يتـــــم بفــــروق تجاوزت 1000 نقطة أساس.
وفقدت أسواق الأسهم الصاعدة حوالي ثلث قيمتها بالعملة المحلية وأكثر من 40% منها بالدولار الأميركي، نظرا لانتشار الانخفاضات في أسعار العملات.
ويجري اتخاذ اجراءات شاملة على مستوى السياسات لمعالجة جذور الضغط المالي ودعم الطلب، ولكن هذه الاجراءات ستستغرق وقتا حتى تؤتي ثمارها الكاملة.
وتتضمن المبادرات الراهنة برامج لشراء الأصول المتعثرة، واستخدام الأموال العامة في إعادة رسملة البنوك ومنح ضمانات شاملة، واجراء تخفيض شامل منسق بين البنوك المركزية الكبرى في أسعار الفائدة على أدوات السياسة النقدية.
واضاف التقرير ان أوضاع الأسواق بدأت تستجيب بالفعل للاجراءات المتخذة، إلا أن المرجح، رغم سرعة تنفيذها، ان يظل الضغط المالي أكثر عمقا وأطول أمدا، ففي مواجهة الأوضاع المالية والاقتصادية المتفاقمة، تقوم الأسواق بالتسعير في ضوء التوقعات التي تشير الى ارتفاع كبير في معدلات عجز الشركات عن السداد وزيادة في خسائر الأوراق المالية والقروض، الأمر الذي يرجع في جانب منه الى امتداد الضغوط حتى شملت الأسواق الصاعدة وتسببت في زيادة احتياجات إعادة الرسملة.
وعلى ذلك، يُرجح ان تستمر صعوبة الأوضاع المالية لمدة أطول وان تكون أكثر مقاومة لتدابير السياسات مما كان متوقعا من قبل.
المستهلكون والشركات
الــى جــــانب التـــــأثير المباشـــر للأزمة المالية، يــــؤدي انخفاض مستوى الثقة الى كبح النشاط الاقتصادي بشكل متزايد، فمع زيادة رسوخ الأزمة المالية الراهنة، تزداد تـــــوقعات قطاعي الأسر والشركات لفترة مطولة من الاحتمالات الضـــــعيفة بشأن فرص العمل والأرباح ونتيجة لذلك، بدأ القطاعان تخفيض الاســـــتهلاك، لاسيما بالنسبة للسلع المعمرة، والحد من أنشطة الاستثمار.
السياسات الاقتصادية الكلية
أدى حدوث بعض الانخفاض في مخاطر التضخم أخيرا الى تهيئة السبيل أمام البنوك المركزية الكبرى لتخفيض أسعار الفائدة على أدوات سياستها النقدية.
فبالمقارنة مع توقعات عدد أكتوبر من تقرير «آفاق الاقتصاد العالمي» وبالنظر الى آخر التخفيضات في أسعار الفائدة المذكورة، يفترض ان تنخفض أسعار الفائدة في عام 2009 بحوالي نقطة مئوية واحدة في الولايات المتحدة ومنطقة اليورو وربع نقطة مئوية في اليابان، تماشيا مع توقعات السوق.
وجدير بالذكر ان هناك اقتصادات متقدمة أخرى خفضت أسعار الفائدة بالمثل، وفي الاقتصادات الصاعدة يبدو المشهد متباينا، حيث قامت بعض البنوك المركزية برفع أسعار الفائدة لمواجهة التدفقات الرأسمالية الخارجية بينما قام البعض بتخفيضها لدعم النشاط الاقتصادي.
وقد أعلنت بعض الحكومات أيضا اتخاذ تدابير على مستوى سياسة المالية العامة لدعم الطلب.
غير انها تدابير محدودة على وجه الإجمال، والتوقعات لا تأخذ في الاعتبار الدفعة التنشيطية المطروحة للنقاش مادامت لم تُعتمد بعد.
ونتيجة لذلك، يتوقع ان يكون موقف سياسة المالية العامة محايدا على وجه العموم في عام 2009. ومن منظور التعديل حسب تغير العوامل الدورية بالتحديد، لا يتوقع ان يطرأ تغير يُذكر على عجز الحكومة العامة في الاقتصادات المتقدمة خلال عام 2009 مقارنة بعام 2008، ما لم يتم اعتماد تدابير جديدة.
آفاق الاقتصاد
واشار التقرير الى انه لاتزال الأوضاع المالية تنطوي على مخاطر جسيمة، فثمة أسباب متعددة لاستمرار القلق بشأن التأثير المحتمل للأزمة المالية على النشاط الاقتصادي، وذلك رغم ردود الأفعال القوية التي أصدرتها السياسات في كثير من البلدان ونجاحها في احتواء مخاطر الانهيار المالي النظامي.
ويُلاحظ ان تخفيض نسب الرفع المالي يمكن ان يكون أشد كثافة وأطول أمداً مما ورد في هذه التوقعات.
واضافة الى ذلك، قد يترتب على تخفيض نسب الرفع المالي زيادة في مخاطر التحولات الكبيرة في اتجاه التدفقات الرأسمالية والانخفاضات غير المنظمة في أسعار صرف العملات لدى الكثير من الاقتصادات الصاعدة، ومن الاحتمالات المعاكسة أيضا ما يتعلق بتزايد المخاطر الانكماشية في الاقتصادات المتقدمة، وإن كانت هذه المخاطر لاتزال محدودة بفضل قوة تثبيت التوقعات التضخمية.
وفي البيئة الراهنة، لا توجد سوى احتمالات محدودة تفيد بإمكانية تجاوز التوقعات، غير ان التدابير المتخذة في اطار سياسات القطاع المالي يمكن ان تدفع على احراز تحسن أسرع من المتوقع في الأوضاع المالية السائدة، إذا ما تم تحديد هذه التدابير وتنفيذها بالكامل، وفي الوقت نفسه، قد تساعد القوة النسبية التي تتسم بها الميزانيات العمومية للشركات غير المالية على منع حدوث تخفيض كبير في الاستثمارات، وفي هذه الظروف، يمكن ان تعود الثقة بسرعة أيضا وان يعود الاتفاق في قطاعي الأسر والشركات الى معدلاته المرتفعة.
ردود أفعال
هناك احتياج واضح لدفعة تنشيطية اضافية من سياسات الاقتصاد الكلي بخلاف ما تم إعلانه حتى الآن، حتي يتسنى دعم النمو وتمهيد السبيل لاستعادة الأوضـــاع السليمة في القطاعات المالية.
وينبغي الاستفادة من الفرصـــــة المتاحة لتيسير السياسة النقدية، وخاصة مع ما تحقق من انخفاض متوسط في مستوى المخاوف التضخمية.
غير ان السياسة النقدية قد لا تكفي لأن التيسير النقدي قد يكون أقل فعالية في مواجهة الأوضاع المالية الصعبة وعمليات تخفيض نسب الرفع المالي، كذلك فإن فرصة زيادة التيسير تكون محدودة في بعض الحالات، لأن أسعار الفائدة على أدوات السياسة النقدية تكون قريبة بالفعل من الحد الصفري.
وهنا يرجح ان تكون المبررات كافية لتقديم دفعة تنشيطية واسعة النطاق من المالية العامة.
ويمكن تحقيق دفعة مالية فعالة إذا كانت أهدافها محددة بدقة، تدعمها سياسة نقدية تيسيرية وتُنفّذ في البلدان التي يتوافر لديها الحيز المالي المطلوب.
القطاع المالي
وبين التقرير انه ورغم قوة ردود الأفعال التي أصدرتها السياسات المالية، فلا يزال من الممكن تعزيزها وتوضيحها وتحسين تنسيقها، ومن ثم العمل على إنعاش أنشطة الإقراض وزيادة الطلب بسرعة أكبر.
وقد يتطلب الأمر التوسع في جهود إعادة الرسملة الجارية تبعا لمدى تفاقم الأوضاع المتوقعة، وفضلا عن ذلك، ينبغي ان يتوافر تحديد واضح لنطاق التغطية والأساس القانوني للضمانات المختلفة وبرامج شراء الأصول، مع مواصلة توفير دعم سخي للسيولة في البنوك المركزية.
وبالنسبة لبعض البلدان، قد يتعين اتخاذ تدابير لتشجيع تسوية مشكلات الديون المتزايدة في قطاعي الأسر والشركات على أساس من الكفاءة ووضوح المسار، يمكن ان يساعد في الحفاظ على القيمة لصالح البنوك الدائنة.
ومن الاعتبارات الحاسمة في هذا الصدد انه يتعين تحسين اتساق السياسات عبر الحدود.
وهناك مهمة أساسية تتمثل في وضع ترتيبات تعاونية لتسوية أوضاع المؤسسات الكبرى العابرة للحدود حيثما لا تتوافر مثل هذه الترتيبات، نظرا لأوجه القصور في الأطر التي تطبقها بعض البلدان.
وعند منح الدعم والضمانات المالية، يتعين النظر في الآثار المحتملة العابرة للحدود، بما في ذلك الآثار على الاقتصادات الصاعدة، وأخيرا، ينبغي وضع استراتيجيات تنظم انسحاب القطاع المالي من ملكية النظام المالي.
الصفحات الاقتصادية في ملف ( pdf )