في غمرة تطور بيئات العمل بسرعة وبوتيرة مستمرة اليوم، قد يتساءل البعض: كيف يفضي تغير التقنيات ومستويات الطلب أو القواعد التنظيمية إلى تطوير منتجات جديدة، وما هي العوامل التي تحفز جهود ومبادرات الابتكار في الشركات بشكل عام؟ في الواقع، ثمة هناك إجابة متعددة الجوانب والأبعاد على تلك التساؤلات، وذلك وفقا لاستنتاجات العميد والمدير التنفيذي لجامعة الدراسات العليا لإدارة الأعمال HEC Paris في قطر وبروفيسور الاستراتيجيات وسياسات الأعمال د.نيلز بلامبيك ونتائجه أبحاثة التي قد تدفع البعض للاستغراب في بعض الأحيان.
التفكير السلبي
يقول نيلز بلامبيك: «كنت مهتما إلى حد كبير بمعرفة العوامل المحفزة للابتكار والإبداع.
ونظرا إلى أن العملية الإبداعية لا تسير وفق نفس الطريقة من وجهة نظر الجميع، أدركت الحاجة الماسة لتناول هذه المسألة من زاوية تفسيرية وإدراكية».
وفي ضوء ذلك، تمحور السؤال التالي حول طبيعة وجهات النظر والتصورات الإدارية التي تدعم جهود ومبادرات الابتكار.
يضيف بلامبيك: «نستشف من الأبحاث السابقة أن المشاعر والأفكار السلبية تمثل العامل الأبرز الذي يشجع على اتخاذ خطوات نوعية وحاسمة في بيئة العمل، وذلك لأنها تعكس الحاجة الماسة لإحداث تغيير حقيقي وملموس».
تراجع المنتجات المبتكرة
يوضح بلامبيك أنه عندما يقوم المدراء بإجراء تقييم سلبي لأي تغيير في بيئة قطاع معين، فإنهم ينظرون إلى هذا الأمر على أنه تهديد قد يتسبب بخسائر للشركات التي يعملون لديها.
بعبارة أخرى، يعتقد المدراء - الذين لديهم تصورات سلبية حيال أحداث مؤثرة مثيرة للقلق - بأنهم يواجهون تهديدات خطرة.
وتظهر الأبحاث السابقة أنه وعند مواجهة مثل تلك التهديدات، يميل صناع القرار إلى البحث عن معلومات أقل، أو معلومات مألوفة بالنسبة لهم، مما يجعلهم أقل توجها للبحث عن معلومات جديدة تفضي إلى تطوير مزيد من المنتجات المبتكرة.
واستنادا إلى ذلك، تنص فرضية بلامبيك على أنه: كلما كانت تصورات ومفاهيم المدراء سلبية حول الأحداث والمضامين المؤثرة، كلما انحسر مستوى المنتجات المبتكرة.
الإستراتيجيات المؤثرة
يميز بلامبيك في أبحاثه بين الاستراتيجيات الدفاعية التي تتسم بتركيز الشركات على الاستئثار بمكانة قوية في السوق، وبين الاستراتيجيات الهجومية الجامحة التي تتسم بسعي مستمر لاغتنام الفرص الجديدة، مع التركيز بشكل خاص على رصد وجود أي ارتباط محتمل بين الوتيرة الدفاعية لاستراتيجية الشركة، ومدى سلبية الاستجابة الإدارية لأي تغيرات في القطاع.
وبنهاية المطاف، يؤكد بلامبيك على أن الإفراط في اعتماد الاستراتيجيات الدفاعية للشركات سيقود لمزيد من التصورات السلبية لدى المدراء.
ويضيف بلامبيك بهذا السياق: «عندما تتسبب استراتيجيات الشركات بدفع المدراء التنفيذيين إلى تقييم البيئة الخارجية كتهديد محدق يستدعي التدخل بشكل فوري للدفاع عن الشركة التي يعملون لديها، فإن انتباههم سينحصر بالمعلومات السلبية، وذلك مقارنة مع المسؤولين التنفيذيين الذين يرتكزون على استراتيجية هجومية وينظرون إلى البيئة الخارجية كمصدر للفرص الجديدة».
الابتكار ليس مجرد أداة لتحقيق الربحية
يسلط د.بلامبيك الضوء على مناقشة مستمرة حول دور موارد الشركات في أنشطة ريادة الأعمال.
وبحسب إحدى المدارس الفكرية، فإن زيادة الموارد المخصصة للبحوث والتطوير يضمن للشركات تبوؤ مكانة تؤهلها لتطوير مزيد من المنتجات المبتكرة.
حيث تعتبر الموارد الكبيرة بمنزلة مخزن يحمي الشركات من الشكوك وانعدام اليقين، وهو ما يساعد بالتالي على إزالة أي قيود تعيق المدراء وتجعلهم أكثر قدرة على التجريب.
واستنادا إلى هذه المناقشات والوقائع، شرع بلامبيك في التأكيد على أن ارتفاع مستويات الموارد يجعل المدراء أكثر ميلا لتقييم الأحداث وفق رؤية أقل سلبية.
في الوقت نفسه، يشير الجانب الآخر للنقاش إلى أن المستويات المرتفعة للموارد قد يعرقل جهود الابتكار، لأن اتساع حجم تلك الموارد يستلزم تطبيق مزيد من القواعد وآليات الرقابة، وهو ما يعرقل بدوره مسيرة الابتكار.
وانطلاقا من ذلك، يشير بلامبيك إلى فرضية ثانية تبدو متناقضة ظاهريا حول التأثيرات المرتبطة بحجم الشركة، فكلما زاد مستوى الموارد، كانت المنتجات أقل ابتكارا.
ويقيس بلامبيك حجم هذا العامل استنادا إلى عدد الموظفين وتراكم الموارد.
وتؤكد النتائج التي توصل إليها بلامبيك على أن وجود مزيد من الموارد يفضي إلى استجابة المدراء بطريقة أقل سلبية إزاء التغيرات في أي قطاع، وبالمقابل، فإن وجود مزيد من الموارد لن يتسبب في تراجع جهود الابتكار.
وقد يكون من المستغرب أن بلامبيك قد خلص إلى أن توافر موارد هائلة لا يعتبر عائقا، ولكنه أيضا لا يقدم حافزا مباشرا لجهود الابتكار، حيث توصل إلى أن حجم الشركة يؤثر على مستوى الإدراك المعرفي والإداري، وهذا التأثير يطول بطبيعة الحال جهود الابتكار، غير أن ذلك لا يحمل تداعيات سلبية مباشرة على وتيرة ابتكار المنتجات الجديدة للشركات.
استخدامات عملية
من خلال تحديد العوامل المؤثرة على عمليات اتخاذ القرار على مستوى الإدارة العليا، تؤكد أبحاث بلامبيك على وجود فرصة للتكيف بأسلوب مسؤول وواع مع تلك التأثيرات الإدراكية والمعرفية.
ويعلق بلامبيك قائلا: «تتركز الخطوة الأولى في هذا السياق على التحلي بدراية كافية حول تلك العملية الإدراكية والمعرفية».
ويقترح بلامبيك التحكم في الإدراك عبر التركيز على النطاق الخارجي للشركة.