تواجه البحرين والكويت وعمان والسعودية والامارات العربية المتحدة تغيرا في ستاتيكو قائم منذ عقود: عجز متزايد في الغاز في المنطقة مقابل فائض في العرض في باقي أنحاء العالم. وعلى الرغم من أن الانكماش الاقتصادي العالمي خفض الحاجة الى الغاز في معظم مناطق العالم، فإن طلب بعض القطاعات الصناعية على الغاز في منطقة مجلس التعاون الخليجي بغية توليد الطاقة الكهربائية قد تجاوز قدرة هذه البلدان على البحث عن الغاز وإنتاجه. ونتيجة لذلك، تجد بلدان مجلس التعاون الخليجي نفسها في موقف لم تألفه من قبل يجعل لزاما عليها استيراد الغاز، في حين أنها كانت تصدر الغاز على مدى عقود، وذلك وفقا لما ورد في تقرير جديد لبوز اند كومباني.
تناقض غير متوقع
تبدو فكرة استيراد الغاز الى بلدان مجلس التعاون الخليجي الغنية بالموارد الطبيعية منافية للمنطق، فدول المجلس الست تملك نحو 23% من الاحتياط العالمي للغاز. «غير أن مدى الاختلال في العرض والطلب على الغاز يحتم على دول مجلس التعاون الخليجي، باستثناء قطر، استيراد الغاز لكي تلبي الطلب المتنامي بسرعة»، بحسب جورج صراف الشريك في بوز اند كومباني.
وقد تضافرت خمسة عوامل لتغيير ميزان العرض والطلب على الغاز في دول مجلس التعاون الخليجي الى الدرجة التي باتت المنطقة تواجه فيها نقضا متعاظما في هذه المادة:
1 ـ تزايد كل من استهلاك الطاقة وحصة الغاز في توليد الكهرباء: نمت اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي بمعدل 7.6% سنويا بين عام 1998 و2008. وقد تماشى الطلب على الغاز والكهرباء مع نمو إجمالي الناتج المحلي إقليميا والتنوع الاقتصادي، محققا نموا بنسبة 5.5 و6.1% على التوالي. وتتوقع هيئة معلومات الطاقة الأميركية أن تنمو احتياجاتها من الطاقة الكهربائية المولدة بنسبة 50% من نحو 710 تيرا ـ واط ـ ساعة عام 2010 إلى نحو 1100 تيرا ـ واط ـ ساعة عام 2030. وتتوقع الهيئة نفسها أن يغطي الغاز أكثر من 90% من طاقة التوليد الإضافية، وهذا ما يزيد على اعتماد قطاع الطاقة الكهربائية في بلدان مجلس التعاون الخليجي على الغاز. وتفيد توقعات الهيئة الأميركية لعام 2009 بأن الوسائل البديلة (الوقود السائل، الوقود المتجدد، الفحم الحجري، الطاقة النووية) ستساهم في توليد الكهرباء إنما بصورة متواضعة إذا ما قورنت بالغاز الطبيعي.
2 ـ تناقص موارد حقول النفط والحاجة إلى الغاز لتطوير استخراج النفط: تعتبر حقول النفط التي تتناقص الكميات الموجودة فيها والتي يستعمل فيها الغاز الطبيعي لضخه من الأرض بهدف إبقاء الضغط في الخزانات والحفاظ على إنتاج النفط، مصدرا اساسيا ثانيا لاستهلاك الغاز في بلدان مجلس التعاون الخليجي. وتعالج دول المجلس نقص الغاز لديها حاليا بخفض كميات الغاز المعاد ضخه وتوجيه الغاز الى المستخدمين النهائيين. غير أن هذه الاستراتيجية ليست مستدامة على المدى الطويل. يفسر د.رائد قمبرجي الشريك في بوز اند كومباني: «على الرغم من أن العمل جار على تطوير التكنولوجيات البديلة الرائدة ونشرها على أساس تجريبي، لا يرجح أن تفضي هذه الوسائل الى خفض كبير للطلب على الغاز».
3 ـ ازدياد التركيز الاقتصادي على قطاعات الحديد الصلب والألومنيوم والبتروكيماويات: كان بروز قطاع البتروكيماويات المرتكزة على الغاز من أكبر نجاحات بلدان مجلس التعاون الخليجي في العقود الثلاثة الماضية.
وتمنح الأسعار المنخفضة للغاز ميزة تنافسية لشركات بلدان مجلس التعاون الخليجي وتتيح لها تعزيز استثماراتها وزيادة قدراتها في السنوات القليلة المقبلة.
ونتيجة لذلك، سيزداد انتاج البولي إيثيلين والبوليبروبيلين في الشرق الأوسط أكثر من مرتين بين عامي 2008 و2012، كما أن إنتاج الحديد قد يرتفع أكثر من ست مرات في الفترة نفسها.
4 ـ التحديات التي يواجهها التنقيب عن الغاز وإنتاجه: تواجه المنطقة تحديات استثنائية للحفاظ على انتاج الغاز ورفعه إلى مستوى يسمح لها بتلبية الطلب عليه.
وجدير بالذكر أن معظم انتاج المنطقة من الغاز هو الغاز المصاحب لإنتاج النفط، وهو بالتالي مرتبط ارتباطا وثيقا بحصص انتاج النفط التي تحددها منظمة البلدان المصدرة للنفط «أوپيك».
وبما أن انتاج «أوپيك» من النفط تراجع، وبالتالي تضاءل في الوقت نفسه انتاج المنطقة من الغاز، في حين يصعب تحديد مواقع موارد جديدة من الغاز غير المصاحب للنفط.
يضاف الى ذلك، أن كون أسواق الغاز في بلدان مجلس التعاون الخليجي مدعومة بقوة، يجعل من الصعب على بعض هذه الدول جذب أو الإبقاء على شركات النفط العالمية التي تقوم بنشاطات التنقيب عن النفط وتطوير حقوله.
5 ـ التزامات تصدير الغاز الطويلة المدى تحد من الامدادات المتوافرة محليا: التزمت بلدان أساسية منتجة للغاز مثل الإمارات العربية المتحدة وعمان وقطر بتصدير كميات كبيرة من انتاجها الحالي كغاز طبيعي مسال الى آسيا وأوروبا خصوصا، بموجب عقود طويلة الأجل.
يقول د.قمبرجي: «سوف تفاقم هذه الالتزامات مشكلة نقص امدادات الغاز في حين أن الطلب يواصل الارتفاع. وتمتد التزامات التصدير حتى آخر العقد المقبل على الأقل وفي بعض الحالات أكثر».
الخبر السيئ: تنامي التحدي
سيصبح النقص أكثر حدة في السنوات الخمس المقبلة بصرف النظر عن سيناريوهات التوقعات: في إطار السيناريو الذي يستمر فيه الركود طويلا، يتوقع أن يرتفع النقص في الغاز من نحو 19 مليار متر مكعب عام 2009 الى نحو 31 مليارا عام 2015.
وفي حالة عودة النمو الاقتصادي الى المستويات التي كان عليها قبل الركود، يتوقع أن يرتفع النقص الحالي الى أكثر من 50 مليار متر مكعب عام 2015.
الخبر الجيد: الخسارة غير كلية
تملك بلدان مجلس التعاون الخليجي فرصة فريدة لمعالجة النقص في الغاز بالاستفادة من الفائض في الأسواق العالمية الناجم عن أزمة الركود العالمي التي خفضت الطلب على الغاز في البلدان الصناعية، والمتأتي أيضا من نمو موارد الغاز غير التقليدية في أميركا الشمالية، بالاضافة الى ارتفاع كبير في مشاريع الغاز الطبيعي المسال.
وتقدر «بوز أند كومباني» أن أسواق الغاز العالمية ستشهد فائضا بنسبة 5 إلى 15 % حتى عام 2015 على الأقل.
وهنا يشرح صراف: اذا أخذنا في عين الاعتبار الفائض العالمي الكبير نرى أن بلدان مجلس التعاون الخليجي تملك فرصة فريدة.
اذ تستطيع دول كقطر والامارات العربية المتحدة وعمان اعادة التفاوض على بعض العقود التي أبرمتها لتصدير الغاز الطبيعي المسال التي تضم عادة الشروط الأدنى لبيع الغاز (off take أو take or pay). وهذا ما قد يساعد هذه الدول في تحرير كميات من الغاز كانت معدة للتصدير وتخصيصها للاستعمال المحلي.
وبما أن جزءا كبيرا من واردات الغاز الطبيعي المسال مرصودة للتصدير الى سوقي اليابان وكوريا الجنوبية ـ اللتين تأثرتا بشدة بالركود الاقتصادي العالمي ـ فإن التوقيت قد يكون مناسبا للجميع لاقتراح عقود ذات بنود مرنة وإيجاد وضع مكسب للطرفين.
وحين تتمكن شركات النفط الوطنية من خفض ما تورده من الغاز الطبيعي المسال الى الأسواق التي تعاني فائضا في الوقت الحالي، فإنها تستطيع النظر في إمكان ابرام عقود تصدير للغاز قصيرة ومتوسطة الأجل في ظل التفاوت بين اسعار النفط والغاز، واستخدام محطات استيراد الغاز الطبيعي المسال السريعة مشابهة لتلك الموجودة في الكويت ودبي لحل مشكلة نقص الغاز.
ويضيف صراف: «يمكن تركيب محطات سريعة لاستيراد الغاز الطبيعي المسال خلال سنة الى 18 شهرا، وهي فترة قصيرة للتصدي لمشكلات الغاز على المديين القصير والمتوسط».
إن استيراد الغاز أو الغاز الطبيعي المسال هو الحل الأسلم اقتصاديا وبيئيا لبلدان مجلس التعاون الخليجي وخصوصا لقطاع الطاقة.
يضاف الى ذلك أن استيراد الغاز أو الغاز الطبيعي المسال سيتيح لبلدان مجلس التعاون الخليجي مواصلة جهود تنويع اقتصاداتها عبر استخدام الغاز المحلي، كما يسمح لها بمواصلة تصدير النفط الخام، وإرسال منتجات مكررة ذات قيمة مضافة الى أسواق أجنبية بدل إحراقها كوقود لتغطية حاجاتها من الطاقة الكهربائية.
وإلى جانب معالجة النقص في الغاز على المدى القصير، يتعين على بلدان مجلس التعاون الخليجي مواجهة التحديات المتصلة بالغاز عبر خفض الطلب على المدى الطويل وزيادة العرض.
وفيما يأتي ستة مجالات يمكن لشركات النفط الوطنية والمرافق والمنظمين والمشرعين تركيز جهودهم عليها:
1 ـ رفع أسعار الغاز المحلية تدريجيا: تقدم بلدان مجلس التعاون الخليجي دعما كبيرا لأسعار الغاز وبالتالي لأسعار الطاقة الكهربائية المتعلقة بالغاز. وسوف يؤدي الرفع التدريجي لأسعار الطاقة على مدى سنوات عدة الى خفض الطلب على الطاقة (وبالتالي الغاز).
2 ـ تحسين فاعلية الطاقة عبر تغييرات في الأطر التنظيمية: ان وضع معايير لكفاءة الطاقة الكهربائية وسن قوانين لتنظيم صناعة البناء، من شأنهما خفض استهلاك الطاقة الكهربائية، وخصوصا في وحدات تكييف الهواء في أشهر الذروة في الصيف حين يبلغ الطلب على الغاز أقصاه.
3 ـ تعزيز انتشار مصادر بديلة للطاقة الكهربائية: سيساعد استخدام الطاقة النووية أو مصادر الطاقة المتجددة ـ مثل الطاقة الشمسية ـ في خفض الطلب على الغاز.
وقد وضعت الإمارات العربية المتحدة هدفا طموحا بتوليد ربع طاقتها الكهربائية من الطاقة النووية في السنوات الخمس عشرة الى العشرين المقبلة، ولتحقيق هذا الهدف تعتزم أبوظبي بناء ست محطات نووية على الأقل بكلفة أكثر من 5 بلايين دولار لكل منها.
ونظرا الى التحديات والعقبات التي يجب تخطيها في بناء هذه المحطات، لا يتوقع أن تبدأ أول محطة نووية في الامارات العربية المتحدة العمل قبل عام 2017.
ويلاحظ د.قمبرجي: «على الرغم من الحساسيات السياسية العالمية حيال استخدام الطاقة النووية في المنطقة، على دول مجلس التعاون الخليجي أن تتخذ خطوات جريئة من هذا النوع لتنويع مصادر الوقود الضروري لتوليد الطاقة الكهربائية على المدى الطويل».
4ـ الاستثمار في وسائل بديلة لتطوير عمليات استخراج النفط: تختبر بعض شركات النفط الوطنية في المنطقة تكنولوجيا رائدة لانتاج وضخ النتروجين أو ثاني أوكسيد الكربون بدل الغاز الطبيعي لتحسين استخراج النفط، ويمكن أن يساعد استخدام هذه التقنيات الحديثة في بلدان مجلس التعاون الخليجي في توفير الغاز لتوجيهه الى المستخدمين النهائيين.
5ـ تقديم الحوافز لشركات النفط العالمية للمساهمة في التنقيب عن الغاز واستخراجه: مع أن دول مجلس التعاون الخليجي بدأت تفتح ببطء ابواب المشاركة في التنقيب عن الغاز واستخراجه لشركات النفط العالمية، فإن الدعم الحكومي المقدم لهذا القطاع يجعل شروط الاستثمار لشركات النفط العالمية غير جذابة.
كما يتوقع أن تزداد مستقبلا موارد الغاز غير المصاحب للنفط في المنطقة وما يرافق ذلك من تحديات تقنية كبيرة مثل معالجة نسبة عالية من غاز الكبريت (sulfur) والغاز الصعب الاستخراج، فإنتاج هذه الموارد الجديدة من الغاز لا يتطلب مزيدا من الوقت فحسب، بل يحمل المزيد من المجازفة ويستلزم