قال بنك بوبيان في تقرير اقتصادي له حول الملامح الاقتصادية لعام 2010 انه رغم مؤشرات التفاؤل الكثيرة لايزال الكثيرون قلقين من تداعيات الأزمة المالية العالمية، ففي الوقت الذي توجد فيه مؤشرات ايجابية لأكبر اقتصادات العالم الا انه مازالت المخاوف تتزايد في منطقة اليورو في ظل ارتفاع الديون السيادية لبعض دولها.
وأشار التقرير الى ان الكثير من المحللين الاقتصاديين حول العالم ذهب إلى أن عام 2010 شهد البداية الحقيقية لنهاية الأزمة المالية العالمية وان عام 2011 سيكون عام التحول إلى اكتمال التعافي الاقتصادي بشكل كامل ما لم يكن هناك تعمد لإخفاء معلومات من قبل البعض مما يؤدي إلى مفاجآت غير متوقعة.
تشير جميع المؤشرات إلى قرب عودة النشاط الاقتصادي العالمي إلى سابق عهده قبل الأزمة العالمية وربما أفضل خلال السنوات القليلة المقبلة لما أفرزته الأزمة من إضافة للخبرات التراكمية لدى الاقتصاديين لتجنب الوقوع في مثل تلك الأزمات مستقبلا وهو الأمر الذي سينعكس حتما على تحسين الأداء بشكل عام.
فمن المؤشرات المبشرة باستمرار النمو والتعافي الاقتصادي في 2011 ما أعلنته أميركا أخيرا من ارتفاع متزايد في الاستهلاك خلال الأشهر الأخيرة من 2010 حتى وصل إلى قرابة 1% في نوفمبر الماضي في تحول كبير وواضح عما كان في 2009 من شبه ركود، كما أن مؤشرات ثقة المستهلكين الأميركيين التي تقوم بها جامعة ميشيغان حققت تقدما معقولا في نهاية 2010.
وتعتبر هذه المؤشرات جيدة بالنسبة لأكبر اقتصادات العالم والذي يتأثر الى حد كبير بالاستهلاك، فمتى اتجه الناس إلى المتاجر في أميركا فهذا دليل واضح على النمو الاقتصادي كما يرى كثير من الخبراء.
من ناحية أخرى واصل مؤشر تسجيل العاطلين عن العمل إشاراته الإيجابية من حيث تناقص أعداد العاطلين إلى أدنى مستوى له خلال العام والذي تم تسجيله في منتصف ديسمبر مما يعني تحسن سوق العمل وتخفيض البطالة.
كذلك بدأت نهاية الأزمة ترتسم في الأفق بأرقام كبيرة في معدلات الإنتاج العالمي وأسعار الطاقة وأرقام المؤشرات الاقتصادية الأخرى التي عادت جميعها تقريبا إلى معدلات ما قبل الأزمة، وأكثر مما كانت عليه قبل الأزمة في دول الآسيان واقتصادات الأسواق الناشئة التي بدأت تخطو خطوات جادة نحو الصفوف الأولى في خارطة الاقتصاد العالمي بجوار أو على حساب دول العالم الأول التي ظلت لحقبة طويلة تقود الاقتصاد العالمي.
ومع ذلك، مازال خبراء المال والاقتصاد حول العالم منقسمين حول السرعة التي يتم بها التعافي الاقتصادي، وليس التعافي ذاته، لأن عملية التعافي قد بدأت بالفعل ولكن بسرعات مختلفة وفقا لظروف كل منطقة وكل قطاع.
ولفت «بوبيان» الى ان انقسام المحللين الماليين والاقتصاديين حول العالم فيما يخص تقدير معدلات التعافي، خلق نوعا من الضبابية حول الوضع العام ككل بالإضافة إلى بعض التداخل بين مفاهيم الأزمة ومسبباتها ونتائجها. فمن ناحية لدينا مؤشرات قوية على التعافي الاقتصادي في كثير من دول العالم، ولكن تقابلها من الجانب الآخر كثير من المثبطات والعراقيل التي لم تكن وليدة الأزمة بقدر ما كانت أحد أهم اكتشافات الأزمة، داعيا للتفرقة بين الأزمة المالية بحد ذاتها والمتمثلة في نقص السيولة بشكل حاد وبين آثارها التي ترتبت عليها من ركود أصاب معظم الأسواق بحالة عجز بيعي مؤقت، صحيح هو لم يصل إلى حد الشلل التام كما يراه البعض ولكنه يبقى عجزا.
كذلك يجب التفرقة بين عملية حدوث التعافي الاقتصادي نفسه والذي حدث بالفعل واختلاف سرعته من منطقة لأخرى، كما يجب الحرص على التفرقة بين أسباب الأزمة وما أوجدته من نتائج وكذلك التفرقة بين النتائج التي ترتبت على الأزمة وبين الدمامل الاقتصادية التي كانت «مدفونة» وقامت الأزمة بكشفها.
مؤشرات إيجابية بتحفظ
سجلت المؤشرات الاقتصادية بمعظم دول العالم سواء تلك الدول الصناعية المتقدمة أو غيرها قدرا معقولا جدا من النمو في 2010، كما سجلت الأسواق الصاعدة في آسيا، أميركا اللاتينية والشرق الأوسط معدلات نمو أفضل من تلك التي سجلتها الدول الصناعية المتقدمة، حيث تسارعت معدلات النمو الاقتصادي في تلك البلدان الصاعدة بمعدلات أكبر مما كانت عليه قبل الأزمة لدرجة دعت كثيرا من المحللين يرون أن الخارطة الاقتصادية العالمية آخذة في التشكل من جديد مع بروز دول الآسيان وبخاصة الصين التي وصفتها كثير من الدوريات الاقتصادية العالمية المتخصصة بالاقتصاد الثاني على مستوى العالم هذا العام 2010.
وتضاعف النمو في الناتج العالمي الإجمالي في 2010 مسجلا قفزة كبيرة من سالب 2% في 2009 إلى 3.6% في 2010 وهو معدل قريب جدا مما كانت عليه الأمور قبل الأزمة في عام 2007، صحيح أن معدلات النمو لم تصل إلى حجم التوقعات السابقة كما يردد البعض، ولكن لماذا لا نقول إن التوقعات كانت مفرطة في التفاؤل أكثر من اللازم؟ فمن غير المعقول أن ينهار الناتج الإجمالي العالمي بفعل أزمة قاسية كهذه منخفضا من مستوياته القصوى في 2007 ثم يصعد دفعة واحدة إلى أكثر مما كان عليه قبل الأزمة في بضعة أشهر.
ولعل النمو الكبير الذي شهدته اقتصادات الأسواق الناشئة ودول الآسيان وبخاصة الصين والهند قد ساهم بشكل فعال في زيادة الإسراع في التعافي، ففضلا عن التعجيل بخروج اقتصادات تلك الدول من الأزمة مبكرا، فقد ساعد في الوقت نفسه الدول الصناعية الكبرى على الخروج من حالة الركود الاقتصادي التي كانت تعانيها، لما تتمتع به أسواق هذه الاقتصادات الصاعدة من ازدياد مطرد في الطلب على المنتجات بشتى صورها الأمر الذي ساهم في استيعاب الزيادة في الإنتاج لدى الدول الكبرى التي توسعت في تلك الأسواق فشهدنا للمرة الأولى شركات عالمية مثل «مرسيدس» و«جي إم سي» تعلنان في أكثر من مناسبة هذا العام 2010 أن السوق الصيني قد أصبح هو سوق السيارات الأول في العالم للمرة الأولى بعد أن تمكن من إزاحة السوق الأميركي عن هذا المركز.
ورغم هذا التحسن الواضح والمدعوم بالأرقام فمازال بعض الخبراء حول العالم يحذرون من الإفراط في التفاؤل معللين تحذيراتهم تلك بما شهدته منطقة اليورو من هزات عنيفة بفعل الديون السيادية في كل من اليونان وايرلندا مؤكدين على أنهما لن تكونا الدولتين الأوروبيتين الوحيدتين بل ستتبعهما دول أوروبية أخرى مثل اسبانيا، البرتغال وربما غيرهما من المرشحين كإيطاليا وبلجيكا، فقد بلغت الديون السيادية في تلك الدول أعلى معدلات تاريخية منذ الحرب العالمية الثانية.
لكن بنظرة أخرى إلى اقتصادات الدول التي تعاني من مخاطر ديون سيادية وهي أغلبها في منطقة اليورو نقع على حقائق مهمة تتعلق بالفجوات والتباينات التي صاحبت عملية الدمج في بدايات القرن الجديد، وبعضها الآخر بأساليب إنفاق تلك الدول بأشكال تصل إلى حد السفه أحيانا من وجهة نظر البعض الآخر فيما يخص رعايتها الاجتماعية لأفرادها وهو ما أدى إلى تذمر كثير من الدول الأخرى التي وجدت نفسها مرغمة على تقديم المساعدة للحفاظ على كيان منطقة اليورو مثل ألمانيا وهولندا.
لقد كانت عملية الدمج منذ بدايتها قبل عقد من الزمن حبلى بالعديد من المشكلات الكبرى لعل أهمها كان التباين الواضح بين تلك الدول فيما يخص الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بحجم الإنفاق لكل منها ومعدلات العجز في الموازنة ومعدلات التضخم، فلم تكن اقتصادات تلك الدول في حينها متساوية، كانت بينها فجوات كبيرة تركت في حينها للزمن كي يغلقها، إلا أن العكس قد حدث وبدلا من التقارب تضخمت تلك الفجوات وزاد اتساعها خلال السنوات العشر الماضية ولم يستطع البنك المركزي الأوروبي حديث النشأة أن يبتكر المقاييس الموحدة التي تناسب كل دول المجموعة ولم يتمكن من تذويب الفروقات الهائلة بين دولها.
ويحدد معظم المحللين حول العالم خيارين لا ثالث لهما أمام الدول التي تعاني من الديون السيادية وهما: التسييل أو الحصول على قروض طويلة ورخيصة التكلفة وربما دمج الاثنين معا في حالة البلدان الأكثر معاناة من الديون السيادية اسبانبا على سبيل المثال، وهذه الحلول يجب أن تصحبها حزمة كبيرة من إجراءات التقشف الشديد في الإنفاق الحكومي.
ويرى المراقبون أن أحد هذين الحلين أو المزيج منهما سوف يمكن تلك الدول من مجابهة ديونها السيادية الكبيرة من ناحية ومن ناحية أخرى يجنب الآخرين ويلات الدخول في أزمات اقتصادية جديدة في المدى المنظور على الأقل.
وبالنظر إلى الحلول السابقة نكتشف أنها إجراءات حيوية ضرورية تؤخر الاتحاد الأوروبي كثيرا في مناقشتها بشكل عملي إلى أن طفت على السطح عبر تلك الديون السيادية بفعل الأزمة أو ربما وجدت في الأزمة فرصة يصعب تكرارها لعلاج الخلل والتباين في اقتصادات الدول الأوروبية بهدف إعادة التوازن أو ربما من الأفضل أن نقول إيجاد أو بناء التوازن فيما بينها لأنه لم يكن موجودا في الأصل.
ويؤكد الخبراء وجهة نظرهم هذه بأن التحسن الذي شهدته دول العالم في الفترة الماضية خلال عام 2010 حدث كنتيجة طبيعية لضخ تريليونات الدولارات في الاقتصادات في شكل خطط إنقاذ وتوسع في الإنفاق الحكومي، إلا أن ذلك أتى على حساب مديونيات الدول التي ارتفعت أيضا إلى مستويات قياسية، وبناء عليه فمن المحتمل أن تتخذ الأزمة الاقتصادية المقبلة شكل تعثر سيادي بسبب الديون السيادية كما رأينا في اليونان وإيرلندا، ثم البرتغال وإسبانيا وإيطاليا وهي جميعها كما نرى في منطقة اليورو، ومن خارج منطقة اليورو ربما نرى بعض المرشحين مثل الأرجنتين وفنزويلا.
معدلات البطالة حول العالم
ومن التبريرات التي يسوقها المتشائمون لما يسمونه بطء التعافي الاقتصادي القول بأن معدلات البطالة حول العالم وفي الدول المتقدمة تحديدا لم تتحسن بالشكل المطلوب وهو ما يضعف الإنفاق الاستهلاكي الذي يعد المحرك الرئيس لاقتصادات الدول المتقدمة، كما أن معدلات التضخم بدأت في الارتفاع التدريجي مما يدل على أن الضغوط التضخمية بدأت تشكل خطرا حقيقيا على هذه الاقتصادات فيما لو واصلت الارتفاع وهو ما قد يجبر البنوك المركزية العالمية على رفع أسعار الفائدة لمواجهة شبح التضخم كما في أستراليا والهند ويعتقد أن يحدث قريبا أيضا في بعض الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين وبعض دول الاتحاد الأوروبي.
وتشير الأرقام الى تحسن معدلات البطالة كثيرا عما كان عليه الوضع في أثناء الأزمة، صحيح أن التحسن كما يقولون ليس بالقدر الكافي، لكن أيضا ليس من المعقول أن نحمل عملية التعافي مسؤولية إيجاد الحلول الشاملة لمشكلات البطالة المزمنة التي تعاني منها كثير من دول العالم. فهناك دول كثيرة عجزت قبل الأزمة عن مواجهة تلك المشكلة المتفاقمة ومن غير المنطق أن نتوقع منها أكثر مما كانت عليه قبل الأزمة.
ويتوقع المحللون المتفائلون أن تعافي الاقتصاد العالمي قد بدأ بالفعل في 2010 وهو مستمر في الأداء الجيد محققا كل يوم مكاسب جديدة ربما تباين حجم وسرعة تحقيق تلك المكاسب من منطقة إلى أخرى حول العالم لأسباب خاصة بكل منطقة وليس بسبب الأزمة ذاتها التي يعتقد أنها قد انتهت أو شارفت على الانتهاء بشكل شبه نهائي.
وتوقع «بوبيان» ان يحمل عام 2011 معه تذاكر الدخول إلى الاحتفال بانتهاء الأزمة وبدء حقبة اقتصادية جديدة، حيث ستحصل بعض الدول على تذاكر درجة أولى ممتازة، وبعضها الآخر سيحصل على تذاكر عادية، وربما البعض لن يتمكن من الحصول على أية تذاكر ولكنهم بكل تأكيد سوف يستمتعون بمشاهدة المباراة وقوفا بجوار الباقين أملا في الحصول على تذاكر في العام التالي، وبغض النظر عن اختلاف الدرجات والدول والمناطق إلا أن الجميع سوف يحصل على قدر من السعادة في العام المقبل 2011 إذا ما أمكن تجنب «المطبات» الأوروبية وديونها السيادية.