أشار بنك الكويت الوطني في نشرته الاقتصادية الأخيرة إلى أن وتيرة التوقعات المحذرة من انتشار السياسات الحمائية والتخفيضات التنافسية للعملات لم تتراجع منذ أن حذر وزير المالية البرازيلي ومسؤولون آخرون من احتمال نشوء «حروب عملات» عالمية. وقد نشأت هذه المخاوف من التدخل الأحادي لعدد كبير من الدول مثل اليابان وسويسرا لمنع ارتفاع قيمة عملاتها.
وتأتي هذه التدخلات وسط توترات بين الولايات المتحدة والصين بشأن تقويم هذه الأخيرة لعملتها بأقل من قيمتها الحقيقية وتحرك الأولى لزيادة السيولة عن طريق جولة جديدة من التسهيل الكمي. هذه التوترات والآثار الناجمة عن السياسات النقدية التوسعية في الولايات المتحدة وبرنامج التسهيل الكمي لديها ستنتج عنها تداعيات على كل من الأسواق المتقدمة والناشئة.
وبالنسبة لاقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي، قال التقرير انه نظرا إلى ربط عملاتها بالدولار الأميركي وكون عائدات صادراتها النفطية مقومة بالدولار، فقد يتابع ويقيم صناع القرار في المنطقة تداعيات الضعف المستمر في سعر صرف الدولار الأميركي على نحو حذر، لافتا الى أنه ستتم مناقشة تداعيات حروب العملات على دول مجلس التعاون الخليجي في تقرير ثان.
سعر الصرف في الصين
وبين التقرير أن الصين هي المصدر الأكبر للولايات المتحدة والمستفيدة من فوائض كبيرة في الحساب الجاري، وبالتالي فإن اعتراضات الولايات المتحدة تركز عليها بشكل متزايد بسبب سياستها في إبقاء عملتها ضعيفة وغير قابلة للتحويل بحرية إلى عملات أخرى. كما أن عدم رغبة الصين في السماح لقيمة عملتها بالارتفاع بشكل إضافي قد أثار السخط العام على سياستها التجارية وجعل حكومة الولايات المتحدة تقترب من تسميتها «بالمتلاعب بالعملة».
وكان بنك الصين الشعبي قد ثبت سعر الصرف عند 6.8 يوان (رنمينبي) مقابل الدولار معظم الوقت خلال العامين الماضين كجزء من استراتيجيته الرامية إلى استقرار الصادرات ونموها، ولكنه سمح بالفعل ببعض الارتفاع الهامشي لقيمة اليوان في يونيو من العام 2010. غير أن هذا الارتفاع البالغة قيمته 3.1% مقابل الدولار كان غير كاف لتهدئة مخاوف الولايات المتحدة والغضب الشعبي الناتج عن الاعتقاد بأن صعود الصين في السنوات الأخيرة قد تم على حساب الوظائف الأميركية والنمو الاقتصادي الأميركي، وذلك عن طريق التدخل المتعمد بالعملة. وقد اتخذ مجلس النواب الأميركي خطوة مهمة في هذا الاتجاه بتمرير قانون في شهر سبتمبر يسمح للشركات باللجوء إلى حماية تعرفية ضد الدول التي تقوم عملتها بأقل من قيمتها الحقيقية.
التسهيل الكمّي الأميركي
ويساور الصين وعدد من الاقتصادات الناشئة والمتقدمة الأخرى أيضا قلق من التأثير السلبي المحتمل من إعلان مجلس الاحتياط الفيدرالي الأميركي الأخير عن شراء 600 مليار دولار من سندات الخزينة الأميركية مجددا وما قد ينجم عن ذلك من تداعيات على تنافسية الأسواق الناشئة والتدفقات الرأسمالية إليها. وكملاذ أخير في جعبة السياسة النقدية لتحفيز الاقتصاد الأميركي، (نمو الناتج المحلي الاجمالي للولايات المتحدة لن يتجاوز 2.6% في العام 2010 بحسب صندوق النقد الدولي، ومعدل البطالة مازال عند حدود 10%)، فإنه يؤمل أن تؤدي سياسة التسهيل الكمي إلى خفض أسعار الفائدة بشكل إضافي وإلى ازدياد نشاط الشركات وارتفاع الإنفاق الاستهلاكي. وأكثر من ذلك، فإن النتيجة غير المباشرة لسياسة التسهيل الكمي هي انخفاض سعر الصرف الاسمي للدولار الأميركي وخاصة مقابل العملات التي تتبع نظام سعر صرف عائم، حيث ان العرض المتزايد للدولار وسعر الفائدة المنخفض (العائد يتجه نحو 2%) يؤديان معا إلى «دفع» التدفقات نحو الأسواق الخارجية.
وقال التقرير انه في حين سيساعد ذلك على تحسين العجز في الميزان التجاري الأميركي المتنامي عبر تحسين صافي الصادرات (البيانات التي نشرها المكتب التحليل الاقتصادي الأميركي تشير إلى انكماش العجز التجاري الأميركي مع العالم في أكتوبر بنسبة 13.2% ليصل إلى 38.7 مليار دولار)، فإن سياسة التسهيل الكمي التي يتبعها مجلس الاحتياط الفيدرالي تقدم للاقتصادات المتقدمة والناشئة، خاصة لتلك التي تحافظ على سعر صرف عائم لعملتها، احتمالين هما ارتفاع اسمي للعملة المحلية مقابل الدولار وتدفق أكبر لرأسمال يبحث عن عوائد أعلى.
وقال إن احتمال اللجوء إلى جولة ثانية من التسهيل الكمي قد تم التلميح إليه في وقت مبكر من العام الماضي، وبانتظار إعلان مجلس الاحتياط الفيدرالي ذلك في الخريف، حيث تراجع الدولار خلال ستة أشهر حتى شهر أكتوبر الماضي بنسبة 8.3% مقابل اليورو وبنسبة 5.7% مقابل الجنيه الاسترليني و9.1% مقابل الين الياباني.
وقد واصل سعر الصرف الاسمي للدولار مساره النزولي (المعدل الموزون بحسب التعاملات التجارية مقابل العملات الرئيسية)، حيث ان التوقعات الناتجة عن التسهيل الكمي لعبت دورها على مدى الأشهر الستة الماضية، إذ انخفض لأدنى مستوى له منذ عام في أكتوبر. ولكن من المثير للاهتمام أن قيمة الدولار الاسمية والمرجحة تجاريا قد ارتفعت بعض الشيء مقابل سلة من العملات في شهر نوفمبر، بالرغم من كل المؤشرات التي كانت تشير إلى مسار نزولي متواصل.
وقد ارتفع الدولار بنسبة 3% و2.2% و0.8% تقريبا مقابل اليورو والجنيه الاسترليني والين على التوالي.
وأشار التقرير إلى أنه من المفيد الملاحظة أن معدل سعر الصرف الاسمي للدولار في نهاية شهر نوفمبر مقارنة بمساره التاريخي كان لايزال أقل بنسبة 18% عن متوسطه لعشرين عاما وبنسبة 35% من ذروته خلال عشرين عاما التي بلغها في شهر فبراير 2002.
التدفقات النقدية
وقال التقرير انه مع سعي المستثمرين إلى الحصول على عوائد أعلى في الخارج، فإن الخوف يكمن في أن تسبب هذه التدفقات فقاعات في أسعار الأصول وارتفاع التضخم والضغط صعودا على أسعار صرف الدول الناشئة، الأمر الذي يضر بتنافسية صادراتها ونموها.
ويقدر معهد التمويل الدولي أن يؤدي صافي التدفقات الرأسمالية الخاصة إلى الأسواق الناشئة المتوقع أن يفوق 825 مليار دولار في عامي 2010 و2011 (الزيادة المتوقعة تفوق مستويات العام 2009 بنسبة 40%) إلى وضع ضغوط صعودية على أسعار الصرف الحقيقية في اقتصادات الأسواق الناشئة مقابل الدولار والين واليورو.
وتتراوح الخيارات في سياسات الدول التي تتأثر بهذه التحركات ما بين: السماح بارتفاع سعر صرف عملتها، أو التدخل في أسواق العملات الأجنبية، (مع تراكم المزيد من احتياطيات الصرف الأجنبي)، أو فرض قيود رأسمالية للتخفيف من تلك التدفقات.
ويساور بعض الاقتصاديات القلق من أن تحول تنافسية الصادرات دون ارتفاع حر في أسعار الصرف، ولذا فإن الملاذ الوحيد لها هو فرض القيود الرأسمالية أو التدخل في أسعار الصرف، أو كلاهما معا من أجل حماية اقتصادياتها المحلية.
وقال إنه في ظروف تنافسية يسودها القلق من ارتفاع القيمة الحقيقية للعملات، من المحتمل أن يحفز تدخل اي دولة الدول الأخرى على اتخاذ أساليب مماثلة. وستكون النتيجة النهائية غير مجدية بعد سلسلة من القيود والقيود المضادة وتبادل الاتهامات.
فعلى سبيل المثال، وضعت كل من تايلند وكوريا الجنوبية بالفعل ضريبة مقتطعة بنسبة 14%- 15% على الأجانب المستثمرين في سنداتها من أجل الحد من تلك التدفقات، ووضعت اندونيسيا فترة احتجاز بالحد الأدنى لأذونات الخزينة الصادرة عن مصرفها المركزي. وعمدت البرازيل، والتي تملك سعر الفائدة الاعلى ضمن كل الاقتصاديات الرئيسية عند 10.75%، إلى مضاعفة الضريبة مؤخرا على عمليات الشراء الأجنبي لدينها المحلي، وهي الآن تفكر في فرض المزيد من القيود الرأسمالية والإجراءات، من أجل تخفيف الضغط الصعودي على عملتها.
وفي الأشهر الأخيرة، كانت تدخل دول مثل سويسرا والهند واليابان ضمن الحالات البارزة على تدخل الدول لمقاومة ارتفاع قيمة سعر الصرف الحقيقي لعملتها. وكانت اليابان من جانبها مرغمة على التدخل في أسواق العملات الأجنبية للمرة الأولى منذ 6 سنوات للحد من ارتفاع قيمة الين، وذلك عن طريق بيع الين مقابل شراء 60 مليار دولار.
وأوضح التقرير أنه بالنسبة لليابان، فإن ارتفاع الين لم يعكس فقط التراجع في عوائد السندات في الولايات المتحدة وفي اقتصادات دول شمال أوروبا، حيث سعى المستثمرون لبيع تلك العملات، بل عكس أيضا تزايد الطلب من الصين التي كانت تحاول تنويع ما تمتلكه من احتياطات أجنبية بعيدا عن الأصول المقومة بالدولار.
وقال التقرير يمكن أن نفهم جزئيا هذه الجهود التي تبذلها الأسواق الناشئة، خاصة اقتصادات «النمور» الآسيوية، من أجل الحد من ارتفاع سعر الصرف الحقيقي إلى حده الأدنى والمحافظة على التنافسية، بسبب الأهمية التي توليها هذه الأسواق لقطاع التصنيع في اقتصاداتها ولرغبتها في تجنب إعادة التجربة المؤلمة للأزمة المالية الآسيوية التي وقعت في العام 1997. وبالنسبة لبعض هذه الاقتصادات الناشئة، فإن أسعار الصرف الحقيقية ارتفعت بشكل كبير في السنوات العشر الأخيرة بفضل وتيرة النمو السريع التي شهدتها. وقد ارتفع متوسط أسعار الصرف الحقيقية الفعلية في شهر أكتوبر لكل من الصين وماليزيا والفليبين مثلا، بنسبة 14% و12% و23% على التوالي من مستواها قبل 5 سنوات.
ولكن الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها السلطات النقدية في هذه الدول الثلاث لإدارة أسعار صرف عملاتها قد حدت من بعض هذه الضغوط الصعودية. ونتيجة لذلك، تراجعت أسعار الصرف الحقيقية في الصين وماليزيا بواقع 2% منذ شهر أغسطس الماضي.
وقد تكاثرت مواطن الاختلال في التجارة العالمية في العقد الماضي، حيث كان النمو في الاقتصادات المتقدمة يعتمد على الإفراط في الاستهلاك والاستدانة، فيما استفاد النمو في الاقتصادات الناشئة من تنافسية الصادرات ومستويات الادخار العالية. فقد تراكم لدى الصين، مثلا، فائض في الحساب الجاري يفوق 3 تريليونات دولار على مدى العقد الماضي، في حين سجلت دول مجلس التعاون ككل، بما تتمتع به من صادرات نفطية هائلة، فائضا في الحساب الجاري قدره 750 مليار دولار على مدى العقد الماضي. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن يتضاعف رصيد الحساب الجاري السنوي في الاقتصادات الناشئة والنامية في السنوات الخمس القادمة، ليزداد من 312.3 مليار دولار في العام 2010 إلى 763.8 مليارا في العام 2015، أي بنمو يبلغ 144%.
تفادي التوصل إلى حروب العملات
بين التقرير أن الوصفة العلاجية في تقدير صندوق النقد الدولي هي في توحيد الجهود على المستوى الدولي بحيث تخضع الاقتصادات المتقدمة كما الاقتصادات الناشئة لفترة تعيد فيها توازنها الداخلي والخارجي. ففي الاقتصادات المتقدمة، يجب أن يكف الاعتماد غير الصحي للاستهلاك الخاص على الاقتراض والاستيراد، وأن يستعيد النمو المستقبلي توازنه عن طريق زيادة الادخار وصافي الصادرات. أما بالنسبة للدول التي تملك فائضا، فيجب أن يتركز الجهد على تحفيز الطلب المحلي والاستثمار، وعلى تغيير اتجاه الموارد نحو الاستهلاك المحلي، كما يجب أن تزداد الواردات ويتباطأ تراكم الاحتياطات. وهذا هو السيناريو الذي يتصوره قادة الغرب، والذي يسهل تطبيقه باعتماد تعديلات في سعر الصرف والتعاون المشترك.
واستدرك التقرير بأن الاجتماع الأخير لدول مجموعة العشرين الذي انعقد في سيول في شهر نوفمبر الماضي أثبت مدى صعوبة معالجة اختلال التوازن التجاري بجهود موحدة. وقد يوصلنا رفض الدول التي تتمتع بفوائض في حسابها الجاري القبول بزيادات كبيرة لسعر صرف عملاتها أو بوضع سقف لفائض حسابها الجاري إلى سباق تنافسي في تخفيض قيمة العملة وفي فرض قيود رأسمالية.