أعوام تمضي وسمو أمير البلاد الراحل الشيخ جابر الأحمد (رحمه الله) باق في قلوبنا ومنجزاته ماثلة أمام ناظرينا وعطاءاته وبصماته تزين كل مرافق الديرة التي تستذكر اليوم مرور خمسة أعوام على رحيل الأمير الذي كان البر رفيقه الدائم وغرس المنجزات شغله الشاغل.
حفلت سنوات حكم سمو الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد (رحمه الله) بالعديد من الانجازات في كافة المجالات لكن يبقى أهمها تعزيز وتثبيت استقلال البلاد بعد اخطر محنة او كارثة يمكن ان تتعرض لها دولة على الاطلاق.
ولد (رحمه الله) سنة 1928 وكان الامير الثالث عشر في عائلة الصباح الكرام وثالث امير للكويت منذ استقلالها.
التحق بالمدرستين المباركية والأحمدية وتلقى تعليما خاصا على أيدي اساتذة خصوصيين في الدين واللغة العربية واللغة الانجليزية.
أتاح له والده المرحوم الشيخ احمد الجابر حاكم الكويت الاسبق ان يزور العديد من بلدان العالم فرأى عن كثب أحوال الشعوب الأخرى وحينما بلغ من العمر احدى وعشرين سنة تقريبا، بدأ ممارسته العملية واتصاله المباشر بأمور الحكم والسياسة، ففي عام 1949 عين (رحمه الله) رئيسا للأمن العام في الاحمدي التي جسدت انتقال الكويت من حياة الغوص والسفر الى عصر النفط وأصبحت احدى أكثر المناطق الصناعية اهمية في دول الخليج العربي، هذه المسؤولية رفدت سمو الأمير الراحل (رحمه الله) بخبرة ادارية عريضة وخلقت لديه اهتماما بشؤون النفط.
في عام 1959 تولى (رحمه الله) رئاسة الدائرة المالية الى ان صدر المرسوم الأميري القاضي بتغيير اسمها الى وزارة المالية بتاريخ 17/1/1962 حيث كان اول وزير للمالية والاقتصاد في الكويت وفي أول حكومة شكلت عقب الاستقلال في عهد المجلس التأسيسي بتاريخ 17/1/1962.
بتاريخ 5/7/1961 زار (رحمه الله) العديد من البلدان العربية لشرح قضية الكويت العادلة بشأن الأزمة العراقية الكويتية بتاريخ 25/6/1961 بعد الاستقلال في 19/6/1961، حيث تلقت الكويت من حاكم العراق عبدالكريم قاسم ادعاءات ظالمة باطلة بضم الكويت الى العراق ورفض الاعتراف باستقلالها وسيادتها.
عين (رحمه الله) وزيرا للمالية والصناعة عام 1963 في عهد مجلس الأمة الأول بتاريخ 28/1/1963.
استقال باستقالة الوزارة بتاريخ 30/11/1964.
ثم عين (رحمه الله) بتعيين الوزارة بتاريخ 3/1/1965 وأصبح وزيرا لوزارتي المالية والصناعة والتجارة.
واستقال باستقالة الوزارة بتاريخ 27/11/1965.
وعين (رحمه الله) رئيسا لمجلس الوزراء بتاريخ 30/11/1965 وبتاريخ 31/5/1966 صدر مرسوم اميري بتعيين سموه وليا للعهد بعد مبايعته للولاية بالاجماع.
ونودي بسموه (رحمه الله) اميرا للكويـت بتاريخ 31/12/1977 اثر وفاة المغفور له الشيخ صباح السالم الصباح الذي كان الحاكم الثاني عشر للبلاد فأصبح سموه الأمير الثالث عشر من اسرة آل الصباح الذي تولى مقاليد الحكم.
أولى المسؤوليات
كانت أولى المسؤوليات العملية للأمير الراحل أواخر الاربعينيات عندما تولى منصب نائب الأمير في مدينة الأحمدي النفطية الناشئة ثم رأس فيها الأمن العام مدة عقد كامل نهضت خلالها المدينة بصورة واضحة ثم انه تولى بعد ذلك رئاسة دائرة المالية وأملاك الدولة مع ما يعنيه ذلك من انخراط مبكر في المسائل التنموية والمالية، وفوق هذا فإنه كان مفوضا لتمثيل الكويت لدى شركات النفط مع ما كانت تمثله هذه الشركات من موقع مهم وتقبل الأمر الذي يتطلب متابعة حثيثة للحصول على حقوق الكويت فيها.
أما أهم المهام التي تولاها (رحمه الله) فكانت في مجال التصدي العربي والعالمي لمحاولة الرئيس العراقي عبدالكريم قاسم ضم الكويت وعدم الاعتراف باستقلالها عن بريطانيا حيث زار على التوالي كلا من الرياض والقاهرة والخرطوم وطرابلس الغرب وتونس والمغرب فلبنان ثم قام بسلسلة زيارات عالمية للدول المؤثرة آنذاك وهي اثمرت فيما بعد تبادل اعتراف مبكر مع الاتحاد السوفييتي والصين ضمن سياسة الكويت المتوازنة في حقبة الحرب الباردة التي استمرت بعد ذلك في اطار منظومة عدم الانحياز والحياد الايجابي.
استهل سمو الامير الراحل الشيخ جابر الاحمد، رحمه الله، بداية توليه الحكم بإلقاء كلمة في وداع الأمير الراحل الشيخ صباح السالم الصباح يوم 2 يناير اكد فيها ان الراحل الكبير كان والدا للجميع احب الكويت واهلها حبا خالصا فبادلته الحب والاخلاص وكان وفيا لأمانيها وتطلعات شعبها فبادلته الوفاء والولاء.
وتعهد سموه (رحمه الله) بأن يكمل المسيرة الخيرة التي اختطها الأمير الراحل وأن يسير على خطاه ليحقق للكويت مزيدا من الانجازات في مختلف المجالات واشار الى انه سيبذل كل ما في وسعه من جهد ووقت لتحقيق ما يصبو إليه الشعب الكويتي من آمال وأمان.
وفي 14 فبراير 1978 حدد سموه السياسة العامة التي سيسير عليها وأكد أن الكويت ستظل حريصة على ترسيخ الديموقراطية الأصيلة بالمشاركة الشعبية النابعة من تراث وتقاليد الكويت وتعهد سموه (رحمه الله) بأنه سيعمل على تطوير وإنضاج وممارسة الديموقراطية تلبية لمتطلبات المجتمع الكويتي في إطار القيم والأخلاق ومبادئ الدين الاسلامي الحنيف.
واكد سمو الأمير الراحل (رحمه الله) ان من واجب الوفاء على هذا الجيل الا ينسى الرعيل الأول الذين قامت على سواعدهم الكويت والذين ضحوا بأرواحهم وأموالهم في سبيلها بأن نكون لهم ابناء بررة أوفياء نراعي حقهم في التقدير والإجلال لما قاموا به وما قدموه من تضحيات.
وذكر سموه (رحمه الله) ان بناء كويت المستقبل هو التحدي الكبير الذي يجب على الكويتيين ان ينهضوا لمواجهته وينذروا أنفسهم لتحقيقه ومن اجل ذلك علينا ان نشرع في بناء الدولة الحديثة التي تأخذ بأسباب التقنية المتقدمة والأساليب العصرية في مختلف مجالات الحياة.
وقال إن المسؤولية يتحملها جميع الكويتيين كبيرهم وصغيرهم غنيهم وفقيرهم مضيفا ان الكويت لنا جميعا وعلينا جميعا مسؤولية بنائها والذود عنها ودفع عجلة التقدم والرقي فيها.
ففي برنامجه الى الأمة والذي تضمنه خطاب 14 فبراير عام 1978 قال سمو أمير البلاد الراحل الشيخ جابر الأحمد (رحمه الله) ستواصل الكويت دورها المعهود في تطوير التعاون الاخوي في مختلف المجالات مع اشقائنا في الخليج الذين تربطنا بهم منذ الأزل اوثق اواصر القربى والتاريخ والمستقبل المشترك.
واضاف سموه (رحمه الله) وسنعمل جاهدين على تعزيز هذه الروابط الاخوية كما سنستمر في سياسة التنسيق والتعاون المشترك لصالح المنطقة وخير بلدانها مؤكدين ان الحفاظ على أمنها واستقرارها مسؤولية دولها وأن هذه المنطقة ذات الاهمية الحيوية للعالم كله يجب ان تظل بمأمن من الصراعات الدولية.
وتابع سموه (رحمه الله) بالقول: وستواصل الكويت انتهاج سياستها الخارجية الثابتة وستظل تبني علاقاتها مع سائر الدول على أساس التقدير والاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية دون تحيز بين شرق وغرب وبما يخدم مصالحنا الوطنية وقضايانا القومية.
لقد حدد سمو الأمير الراحل (رحمه الله) أهداف وأطر السياسة الخارجية للكويت بحيث تكون بالنسبة للدائرة الخليجية تمتين اواصر العلاقات مع الدول الشقيقة وتحقيق امن واستقرار المنطقة والنأي بها عن التدخلات الخارجية.
وجاءت تصورات سموه (رحمه الله) لسياسة الكويت الخارجية مطابقة لمواد وروح الدستور الذي اكد ان الكويت دولة عربية دينها الاسلام تسعى الى السلام والتعاون مع دول العالم الملتزمة بمواد وتوجهات ميثاق الامم المتحدة وتوجهات الشرعية الدولية.
وقد حرص سمو الامير الراحل (رحمه الله) منذ توليه مقاليد الحكم على وضع تصوراته موضع التنفيذ فأطلق مبادرته الخاصة بتأسيس اطار يجمع دول مجلس التعاون الست المتشابهة في ظروفها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتاريخية (الكويت والسعودية والامارات وعمان وقطر والبحرين) ويوحد خططها الداخلية والخارجية بشكل متدرج، لتحقيق مصالحها ومصالح مواطنيها في زمن اصبح الوزن يميل فيه لصالح التكتلات الكبرى وليس الكيانات الصغيرة.
وكان سمو الأمير الراحل (رحمه الله) قد قام في نهاية العام 1978 بزيارات الى الرياض والمنامة والدوحة وابوظبي ومسقط تركزت المناقشات خلالها على استعراض الوضع في منطقة الخليج وتوطيد العلاقات بين الدول الست في كل الميادين وبذل كل الجهود الممكنة لضمان امنها واستقرارها، وهي زيارة يمكن وصفها بأنها استهدفت استطلاع امكانية خلق اطار مؤسسي يجمع بين الدول الست.
فظهر مجلس التعاون لدول الخليج العربية في عام 1981 والذي ولدت فكرته في عقل وضمير سمو الأمير الراحل (رحمه الله).
وفي عام 1989 اقترح سمو امير البلاد الراحل (رحمه الله) اضفاء الطابع الشعبي على مسيرة المجلس من خلال تأسيس مجلس استشاري يدرس ويقدم مرئياته إزاء كل ما يحيله إليه المجلس الاعلى من قضايا ومشكلات لتكون المعالجة متوافقة مع توجهات وطموحات مواطني الدول الست، وقد تأجلت مناقشة المقترح بسبب العدوان الآثم على الكويت في 2 أغسطس 1990.
وفي عام 1996 اعاد سموه (رحمه الله) طرحه على القادة فوافقوا عليه من ناحية المبدأ وبعد دراسات اقرت القمة الخليجية الثامنة عشرة في الكويت 1997 تأسيس المجلس الاستشاري كرافد شعبي لمجلس التعاون وكتعبير عن الخطوات التي قطعتها الدول الست على طريق الشورى والديموقراطية.
سياسة حكيمة
استطاعت الكويت خلال عهد سمو الأمير الراحل (رحمه الله) الحفاظ على أمنها واستقرارها وسط التغيرات الكبيرة التي طالت المنطقة العربية والخليجية في عقود السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين كما استطاعت كذلك تجاوز تجربة الغزو الذي مثل تحديا لسياسة الأمير (رحمه الله) على المستويين الداخلي والخارجي، ويمكن عرض اهم ملامح السياسة الخارجية لسموه (رحمه الله) من خلال العناصر التالية:
1ـ العلاقات مع العراق:
تولى سمو الأمير (رحمه الله) قضية الدفاع عن الكويت امام الادعاءات العراقية منذ بدايات الاستقلال عام 1961 حيث دفعته الازمة التي افتعلها حاكم العراق عبدالكريم قاسم في 25 يونيو 1961 مع الكويت الى تحرك خارجي يشمل معظم الدول العربية لشرح الموقف الكويتي.
فقد ترأس سموه (رحمه الله) الذي كان رئيسا لدائرة المالية آنذاك وفدا غادر البلاد في 5 يوليو 1961 لزيارة الرياض حيث اجتمع بالملك الراحل سعود بن عبدالعزيز كما قام بزيارة لجمهورية مصر العربية واجتمع مع الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في قصر المنتزه في المعمورة، هذا اضافة الى سفره الى السودان ثم ليبيا في 15 يوليو من ذلك العام وبعدها تونس في 18 يوليو والمغرب ومنها الى لبنان ثم الكويت عائدا في 26 يوليو وقد اثمرت تلك الجولة التي قادها الشيخ جابر آنذاك نجاحا بارزا تمثل في تأييد الدول العربية مجتمعة لقضية الكويت في مواجهة الادعاءات والمطالبات العراقية.
دعوة إلى المقاومة
ففي الخامس من اغسطس 1990 وجه سمو الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد (رحمه الله) نداء كتبه بخط يده الى اولاده ابناء الكويت دعاهم فيه الى مقاومة الاحتلال والصمود في وجه المعتدين واعدا اياهم بالتحرير قريبا بمشيئة المولى عز وجل.
وقال سموه (رحمه الله) في ندائه: انني اتحدث إليكم اليوم ومشاعر الألم والحزن تعتصر قلبي لأن كويتنا العزيزة تعرضت لعدوان غاشم استهدف ارضنا وشعبنا بعد ان اجتاحت هذا البلد الصغير الآمن المسالم مئات الدبابات وانهالت عليه عشرات الألوف من الجنود وعصفت بسمائه الصافية جموع الطائرات تنشر الرعب والدمار.
فما يحزننا ايها الاخوة ان مصدر هذا العدوان الغاشم لم يكن عدوا معروفا فنتقي شره، او بعيدا عنا فنرتاب في امره، بل هو للأسف الشديد جاء العدوان من اخ وجار قريب شددنا ازره في محنته ووقفنا الى جانبه في ضيقه، واصابنا من جراء ذلك ما اصابنا.
وأضاف (رحمه الله) اذا كان العدوان قد تمكن من احتلال ارضنا فإنه لن يتمكن ابدا من احتلال عزيمتنا.
واذا كان المعتدون استولوا على مرافقنا ومنشآتنا العامة فإنهم لن يستطيعوا ابدا الاستيلاء على ارادتنا.
فعزيمتنا وارادتنا هما عزيمة وإرادة ابنائنا وأجدادنا الذين واجهوا اعتى التحديات فلم تلن لهم قناة ولم يخضعوا لأي عدوان، وكويت اليوم هي كويت الأمس ارض العزة والكرامة ومنبت الرجال ومنبت الأبطال لا تطأطئ رأسها للغزو ولا خفضت جبينها للمعتدين. وأكد سموه (رحمه الله) ان التاريخ سيسجل لكم بمداد الفخر والعز كما سجل لآبائكم وأجدادكم من قبلكم تلك الوقفة الشجاعة والتصدي الباسل الذي قمتم به وقامت به قواتكم المسلحة من جيش وحرس وطني وشرطة لمواجهة جحافل العدوان بقلوب ثابتة مؤمنة بالله ومؤمنة بكل ذرة من تراب الوطن الطاهر رواها الآباء والأجداد بالدم والعرق ليقود (رحمه الله)بكل اقتدار وعزيمة معركة تحرير الوطن ولتكون كلماته نبراسا للمقاومين الأبطال اللذين رفعوا علم الكويت على ترابها المحرر.