- مندكار: السمع والطاعة للحكام أصل من أصول الدين وإن جاروا أو ظلموا أو فسقوا أو فجروا
- الطويل: مناصحتهم واجبة والتشهير بهم ومحاسبتهم علناً مفسدة ولو سمح الدستور بذلك
- الهاجري: انفلات الأمن وانتشار الخوف نتيجة حتمية للتحريض وإثارة الفتن والتقليل من هيبة ولاة الأمور
محمد راتب
شدد الشيخ د.فلاح بن إسماعيل مندكار الأستاذ في قسم العقيدة والدعوة بكلية الشريعة في جامعة الكويت، والخطيب في وزارة الأوقاف، على ان السمع والطاعة لولاة الأمر من المسلمين في غير معصية مجمع على وجوبه عند أهل السنة والجماعة وهو أصل من أصولهم التي باينوا بها أهل البدع والأهواء، لافتا إلى أنه قل ان ترى مؤلفا في عقائد أهل السنة إلا وينص على وجوب السمع والطاعة لولاة الأمر وإن جاروا وظلموا، وإن فسقوا وفجروا، وقال: إن هذا الإجماع مبني على النصوص الشرعية الواضحة التي تواترت بذلك.
جاء ذلك خلال الندوة التي نظمتها المراقبة الثقافية في إدارة مساجد مبارك الكبير مساء الأربعاء في مسجد طيبة النصرالله بضاحية صباح السالم، وذلك بعنوان: «طاعة ولي الأمر وأثرها في تحقيق أمن الوطن»، وبمشاركة د.حمد الهاجري الأستاذ المساعد في قسم الفقه المقارن والسياسة الشرعية بكلية الشريعة في جامعة الكويت، والخطيب في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.
ولفت الشيخ مندكار، إلى أن السمع والطاعة لولاة أمر المسلمين أصل من أصول الدين، قل ان يخلو كتاب فيها من تقريره وشرحه وبيانه، وما ذاك إلا لبالغ أهميته وعظيم شأنه، إذ بالسمع والطاعة لهم تنتظم مصالح الدين والدنيا معا، وبالافتئات عليهم قولا أو فعلا فساد الدين والدنيا، مضيفا انه قد علم بالضرورة من دين الإسلام أنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة ولا إمامة إلا بسمع وطاعة، وأن السمع والطاعة لولاة الأمر من المسلمين ـ في غير معصية ـ مجمع على وجوبه عند أهل السنة والجماعة وهو أصل من أصولهم التي باينوا بها أهل البدع والأهواء.
وجوب السمع والطاعة
وقال الشيخ مندكار: قل أن تري مؤلفا في عقائد أهل السنة إلا وهو ينص على وجوب السمع والطاعة لولاة الأمر وإن جاروا وظلموا، وإن فسقوا وفجروا، وهذا الإجماع الذي انعقد عند أهل السنة والجماعة على وجوب السمع والطاعة لهم مبني على النصوص الشرعية الواضحة التي تواترت بذلك، ونحن نذكر طرفا منها يحصل به المقصود، ويتضح به الحق، وذلك مثل قول الله تعالي: (يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)، وقال: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا)، وأخرج البخاري في صحيحه ـ ومسلم في صحيحه عن عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة».
وأضاف ان هناك نصوصا كثيرة فيما يخص هذا الأمر، منها ما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن علقمة بن وائل الحضرمي عن أبيه قال: سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا نبي الله أرأيت ان قامت علينا أمراء يسألوننا حقهم ويمنعوننا حقنا فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثم سأله؟ فأعرض عنه، ثم سأله في الثانية ـ أو في الثالثة، فجذبه الأشعث بن قيس، وقال: قال رسول الله: «اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم»، لافتا إلى أن ذلك يعني أن الله تعالى حمل الولاة وأوجب عليهم العدل بين الناس فإذا لم يقيموه أثموا، وحمل الرعية السمع والطاعة لهم، فإن قاموا بذلك أثيبوا عليه، وإلا أثموا.
مناصحة ولاة الأمور
ثم ابتدأ فضيلة الشيخ سالم بن سعد الطويل الإمام والخطيب بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمحور الثاني، والذي كان بعنوان «المنهج الشرعي في مناصحة ولاة الأمور» فقال: لابد من القيام بواجب السمع والطاعة لولي الأمر، والسمع والطاعة واجب شرعي دل عليه الكتاب والسنة وأجمع عليه سلف الأمة وليس وليد الأحداث الأخيرة. وقال: لا يجوز التشهير بولاة الأمور ومحاسبتهم علنا ولو سمح الدستور بذلك. وإذا رأى المسلم من ولي أمره شيئا فعليه الصبر. ففي الخروج على ولاة الأمر إذا قصروا مفسدة أعظم مما هم عليه. إننا نحتاج أكثر ما نحتاج إلى الفقه في الدين.
أمن الوطن
أما الشيخ د.حمد بن محمد الهاجري الأستاذ المساعد في قسم الفقه المقارن والسياسة الشرعية بكلية الشريعة في جامعة الكويت، والخطيب في وزارة الأوقاف فتناولت كلمته المحور الثالث من الندوة عن «أثر طاعة ولاة الأمور في تحقيق أمن الوطن»، قال: إن الأمن مطلب فطري، وحاجة إنسانية ملحة، ونعمة من أجل النعم وأولاها، لا تستقيم الحياة من دونه، ولا يستغني عنه فرد، أو مجتمع، أو دولة، وهو سبب رئيس لتقدم الأمم ورفعتها وحضارتها ورقيها وقوتها وهيبتها وعزتها لافتا إلى أن الحياة من دون أمن جحيم لا يطاق، وسوداء مظلمة، وجدباء قاحلة، وشديدة قاسية، إذا اضطرب الأمن أو تزعزع أو فقد، سيطر على النفوس الهلع والفزع والخوف، وتقطعت السبل، وانشغلت الأمة بأزماتها الداخلية، بدلا من سعيها لنشر دين الله في المعمورة.
وأضاف أن الإسلام ـ وهو دين الرحمة والأمن والأمان والسلام ـ قد أولاه عناية خاصة، وأهمية بالغة، وعده مطلبا شرعيا، وقاعدة أساسية من القواعد التي يبنى عليها المجتمع الإنساني، ونعمة يجب رعايتها والحفاظ عليها، ومنع ما يهددها، وقد تمثل ذلك في كثرة الآيات والأحاديث الواردة بخصوصه تأكيدا وحثا وترغيبا وإشادة، وفرض أشد العقوبات على من ينتهكه.
ولفت د.الهاجري إلى أنه بسبب الاهميه القصوى للأمن في حياة الناس، قدمه إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم في دعائه، قال تعالى: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر) سور البقرة: 126، وذلك لأن الناس لا يهنأون بالطعام أو الشراب مع وجود الخوف، ولما كان الأمن بهذه المنزلة العظيمة، امتن الله سبحانه وتعالى به على قريش، التي قابلت النعم الكبار بالإباء والاستكبار.
وقال: ما كان الله عز وجل ليمتن ـ وهو الجواد الكريم ـ بما ليس بمنة ولا نعمة، فقد قال سبحانه: (لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه: فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها»، مؤكدا انه لهذه الأهمية للأمن: شرع الإسلام عقوبات رادعة لتدعيمه في المجتمع، وحفظ ضروريات الناس الخمس: الدين، والنفس، والعقل، والمال، والعرض، يقول تعالى: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون).
وأضاف أن من أهم أسباب ترسيخ الأمن وتدعيمه واستمراره: السمع والطاعة لولي أمر المسلمين، كما أن من أهم أسباب انفلات الأمن وانتشار الفوضى والخوف الخروج عن طاعة ولاة الأمور والانفلات وتأليب الناس عليهم وإظهار عيوبهم والاستخفاف بهم وإثارة الناس وتحريضهم وملء قلوبهم عليهم والتقليل من هيبتهم، وعدم رعاية النصوص الواردة في ذلك، مشيرا إلى أنه بفقدان الأمن وظهور الخوف تتعطل جميع مصالح الناس الدينية والدنيوية، كالتجارة، والصناعة، والزراعة، ونحوها، وحتى العبادات لا يمكن أن يأتي بها العبد إذا كان خائفا على نفسه أو ماله أو عرضه. حيث قال عبدالله بن المبارك ـ رحمه الله:
قد يدفع الله بالسلطان معضلة عن ديننا رحمة منه ورضوانا
لولا الأئمة لم تأمن لنا سبل وكان أضعفنا نهبا لأقوانا
وقال: إن الأمن لا يكون إلا بدولة، ولا تكون الدولة إلا بالسمع والطاعة، فإذا كان الأمير لا يسمع له ولا يطاع، ولا تمتثل أوامر الله وأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق الأمير فإنه ينتشر بين الناس الفساد والقلاقل والفتن والتطاحن والشرور، واختلال الأمن في الأوطان الذي هو أساس استقامة معاش الناس في معاملاتهم وعباداتهم، وإراقة الدماء، وفشو الظلم، وتعريض المسلمين للمفاسد التي تترتب على تلك المحاولات، مشيرا إلى أن الافتئات على ولاة الأمور يتسبب في إيغار الصدور وفساد ذات البين بين ولاة الأمور ومؤيديهم وبين معارضيهم فعن أبي الدرداء، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين الحالقة»، ولهذا جاءت النصوص الكثيرة في الكتاب والسنة بالتأكيد على طاعة ولاة الأمر، والنصيحة لهم، والسمع والطاعة، وأن يصبر الإنسان على ظلمهم، حتى وإن كان منهم أي: الولاة أثرة فإنه يصبر، ويسأل الله ـ تبارك وتعالى ـ أن يصلح الأحوال، ويدعو لهم بالهداية والتوفيق والسداد، كما هو منهج أهل السنة والجماعة.
وبين الهاجري ان السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين وبذل النصيحة لهم فيه حفظ لجماعة المسلمين، وعدم تعريضها للفتن والشرور، مستعرضا اهتمام السلف بهذا الأمر، حيث كان أهل العلم يولون هذا الأمر اهتماما خاصا، لاسيما عند ظهور بوادر الفتن، نظرا لما يترتب على الجهل به أو إغفاله وعدم الاهتمام به من الفساد العريض في العباد والبلاد، والعدول عن سبيل الهدى والرشاد. وكان يزيد اعتناء العلماء ببيان هذا الأمر المهم، كلما ازدادت حاجة الأمة إليه، سدا لباب الفتن، وإيصادا لطريق الخروج على الولاة، الذي هو أصل فساد الدنيا والدين، ومن أقوالهم في بيان أثر السمع والطاعة لولي الأمر على أمن الوطن، وأن ذلك فيه دفع لمفسدة عظمى، وهي ما يترتب على قتالهم من الفساد الديني والدنيوي.
وبين أن تعظيم ولاة الأمر والعلماء، والسمع والطاعة لهم من علامة خيرية الأمة وسعادتها، وفلاحها، حيث قال سهل بن عبدالله التستري ـ رحمه الله: «لايزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء، فإن عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، وإن استخفوا بهذين، أفسدوا دنياهم وأخراهم»، وقال ابن تيمية: «..ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد، والعدل، وإقامة الحج، والجمع، والأعياد، ونصر المظلوم، وإقامة الحدود، لا تتم إلا بقوة وإمارة، ولهذا روي: أن السلطان ظل الله في الأرض، ويقال: ستون سنة من إمام جائر، أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان، والتجربة تبين ذلك.
وأضاف أن العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله: قال: «فالله الله في فهم منهج السلف الصالح في التعامل مع السلطان، وألا يتخذ من أخطاء السلطان سبيل لإثارة الناس وإلى تنفير القلوب عن ولاة الأمور، فهذا عين المفسدة، وأحد الأسس التي تحصل بها الفتنة بين الناس، كما أن ملء القلوب على ولاة الأمر يحدث الشر والفتنة والفوضى، وكذا ملء القلوب على العلماء يحدث التقليل من شأن العلماء، وبالتالي التقليل من الشريعة التي يحملونها. فإذا حاول أحد أن يقلل من هيبة العلماء، وهيبة ولاة الأمر، ضاع الشرع والأمن، لأن الناس إن تكلم العلماء لم يثقوا بكلامهم، وإن تكلم الأمراء تمردوا على كلامهم، وحصل الشر والفساد. فالواجب أن ننظر ماذا سلك السلف تجاه ذوي السلطان، وأن يضبط الإنسان نفسه، وأن يعرف العواقب. وليعلم أن من يثور إنما يخدم أعداء الإسلام، فليست العبرة بالثورة ولا بالانفعال، بل العبرة بالحكمة».
ثم بين الهاجري صورا من تعامل السلف الصالح مع الحكام، حيث سبق ان السمع والطاعة لولاة الأمر من المسلمين في غير معصية مجمع على وجوبه عند أهل السنة والجماعة، وموقف السلف من الحكام نابع من ذلك الأصل الذي يفارقون به كل من لم يلتزم به، والنظر إلى واقعهم وتعاملهم مع الحكام يؤكد هذا الأصل، مستشهدا بمثال يدل على تطبيق السلف لهذا الأصل، حيث إنه لما وقعت الفتنة في عهد عثمان رضي الله عنه، قال بعض الناس لأسامة بن زيد رضي الله عنه: ألا تدخل على عثمان لتكلمه؟ فقال: «أترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم؟ والله لقد كلمته فيما بيني وبينه، ما دون ان أفتتح أمرا لا أحب أن أكون أول من فتحه»، وكان مراد أسامة كما نقل ابن بطال عن المهلب أنه لا يريد أن يكون أول من يفتح باب الإنكار على الأئمة علانية، فيكون بابا من القيام على أئمة المسلمين، فتفترق الكلمة وتتشتت الجماعة، كما كان بعد ذلك من تفرق الكلمة بمواجهة عثمان بالنكير.
وحقا فقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهيبون الإنكار على الأئمة علانية مخافة أن يظنه العامة تحريضا عليهم، بل يقرون أمام الناس بالسمع والطاعة لولي الأمر وإن اختلفوا معه في أمور اجتهادية.
واستعرض بعض الصور من حياة السلف الصالح ومنها:
ـ حين قدم أبوذر رضي الله عنه على عثمان رضي الله عنه من الشام قال: يا أمير المؤمنين افتح الباب حتى يدخل الناس، أتحسبني من قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم على فوقه؟ هم شر الخلق والخليقة، والذي نفسي بيده لو أمرتني أن أقعد لما قمت، ولو أمرتني أن أكون قائما لقمت ما أمكنتني رجلاي، ولو ربطتني على بعير لم أطلق نفسي حتى تكون أنت الذي تطلقني. ثم استأذنه أن يأتي الربذة فأذن له، فأتاها فإذا عبد يؤمهم فقالوا: أبوذر، فنكص العبد فقيل له: تقدم، فقال: أوصاني خليلي رضي الله عنهما بثلاث: أن أسمع وأطيع، ولو لعبد حبشي مجدع الأطراف، وإذا صنعت مرقة فأكثر ماءها ثم انظر جيرانك فأنلهم منها بمعروف، وصل الصلاة لوقتها فإن أتيت الإمام وقد صلى كنت قد أحرزت صلاتك وإلا فهي لك نافلة.
ولما خرج أبوذر إلى الربذة، لقيه ركب من أهل العراق، فقالوا: يا أبا ذر، قد بلغنا الذي صنع بك، فاعقد لواء يأتيك رجال ما شئت. قال: مهلا مهلا يا أهل الإسلام، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سيكون بعدي سلطان فأعزوه، من التمس ذله ثغر ثغرة في الإسلام، ولم يقبل منه توبة حتى يعيدها كما كانت.
ـ وجاء في الإصابة 6/217: حين عزل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ابن مسعود رضي الله عنه عن بيت مال الكوفة، وأمره بالقدوم إلى المدينة، اجتمع الناس فقالوا: أقم ونحن نمنعك أن يصل إليك شيء تكرهه، فقال: إن له علي حق طاعة، ولا أحب أن أكون أول من فتح باب الفتنة.
ـ موقف الإمام أحمد بن حنبل: قال: لا يخفى على من له أدنى إلمام بالتاريخ ما تعرض له هذا الإمام من قبل الولاة في وقته من الظلم والجور، ومع ذلك كان ـ رحمه الله مثالا للسنة في معاملة الولاة، حيث ان الولاة قد تبنوا في زمنه عقيدة خلق القرآن، والتي دعا إليها الجهمية والمعتزلة في ذلك العصر، وكان دافعهم إلى القول بخلق القرآن نفيهم لجميع صفات الله ـ عز وجل ـ ومنها صفة الكلام، ثم اصطدم مذهبهم بالقرآن الكريم الذي هو من كلام الله تعالى، فذهبوا إلى أنه مخلوق، وليس من صفات الله سبحانه.
الفكر الجهمي
ثم قام العلماء يواجهون الفكر الجهمي والمعتزلي كل حسب قدرته، ولكن قسوة الولاة في الدعوة إلى هذه البدعة جعلت الكثيرين يحجمون عن إظهار معتقدهم، والرد على المبتدعة في ذلك، حيث إن الولاة حملوا الناس على هذه البدعة بالقوة والسيف، وأهريقت دماء الكثيرين من العلماء، وفرض القول بخلق القرآن على الأمة، وقرر ذلك في كتاتيب الصبيان.
وقد وقف الإمام أحمد في المحنة طودا شامخا يمثل أهل السنة في المسألة، ويرد على الجهمية والمعتزلة.
ولكونه على رأس المواجهة لهذه البدعة، ناله من ظلم الولاة وجورهم وألوان العذاب وصنوف التعذيب ما يطول وصفه، واستمر ذلك عهود 3 من الخلفاء.
يقول حنبل ـ رحمه الله تعالى: «اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق إلى أبي عبدالله ـ يعني: الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله تعالى، وقالوا له: إن الأمر قد تفاقم وفشا ـ يعنون إظهار القول بخلق القرآن، وغير ذلك ولا نرضى بإمارته، ولا سلطانه.
فناظرهم في ذلك، وقال: عليكم بالإنكار في قلوبكم، ولا تخلعوا يدا من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح بر ويستراح من فاجر.
وقال: ليس هذا ـ يعني: نزع أيديهم من طاعته ـ صوابا، وهذا خلاف الآثار».
فهذه صورة من أروع الصور التي نقلها الناقلون، تشرح صراحة التطبيق العملي لمذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب.
والمهم هنا هو موقف الإمام أحمد في معاملة الحكام، فمع كل ما ناله من التعذيب المستمر، ثبت على السنة في أسلوب معاملته مع الحكام، ولم يكن وقوفه ضد الباطل في مسألة خلق القرآن على حساب أصل أهل السنة في التعامل مع الحكام، كما قد يقع في شيء من ذلك بعض من لم يتمعن في مذهب أهل السنة في التعامل مع الحكام.
فلم يأمر الإمام بالخروج على الولاة، مع وضوح ظلمهم، واستمراره، ومع تبنيهم أخطر بدعة نشأت في ذلك الوقت.
ووجه الهاجري نصيحة للشعب الكويتي فيما يخص واجبهم تجاه ما حصل وذلك من خلال:
1 ـ يجب أن يشعر كل منا ـ كل بحسبه ـ أنه مسؤول بين يدي الله ـ عز وجل ـ عن أي إخلال بالأمن من جهته، أو إثارة للفتنة بقول أو عمل.
2 ـ أن نعلم ان من وسائل تحقيق الأمن والمحافظة عليه: تحقيق السنة فيما يتعلق بالمعاملة مع الولاة والحكام، ويفعل العبد ذلك ديانة وتقربا إلى الله ـ تبارك وتعالى ـ ومن هذا الباب ورد التحذير الشديد من الخروج على ولاة أمر المسلمين، لأن ذلك يفوت على المسلمين مصلحة الاجتماع والألفة والأمن.
فجميع الأحاديث التي وردت في الحث على التزام الصبر على جور الولاة والأئمة فيها درء للفتن التي قد يتعرض لها المسلمون من جراء محاولاتهم لتغيير المنكر، وذلك بالوقوع فيما هو أشد منه شرا.
3 ـ وأن ينكر على كل من أخل بأمن المسلمين ـ على أن يكون إنكاره عليه مقيدا بالضوابط الشرعية ـ فإن من أخل بأمنهم، فقد أخل بدينهم ودنياهم، والناس في هذه الدنيا كقوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فأراد الذين هم في أسفلها أن يخرقوا خرقا في سهمهم، ليستريحوا ويريحوا فلو تركهم من هم في أعلاها، غرقوا جميعا، ولو أخذوا على أيديهم، نجوا جميعا، كما أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فالواجب علينا: ألا نجامل، ولا نبالغ في حسن الظن بمن يفسد أمن البلاد، ومن يفتح على المسلمين أبواب الفتن، ولو كان قصده حسنا، فالمقصد الحسن وحده لا يكفي، بل لابد من الاتباع الصحيح، والحفاظ على مقاصد الشريعة وبقايا الخير، فالعبرة بما تؤول إليه الأمور، والله أعلم.
4 ـ كما يجب علينا أن نعتبر بما جرى لعدة دول، عظة وعبرة لنا، من جراء الافتيات على ولاة الأمور، فنسأل الله أن يجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، وأن يصرف عنا وعن المسلمين الموبقات والمرديات.
فبالأمن استقامة أمر الدنيا والآخرة، وصلاح المعاش والمعاد، والحال والمآل، وقد حذرنا الله من الفتنة التي يعم بلاؤها، فقال ـ عز وجل: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) الأنفال: 25.
5 ـ توقير الأمراء والدفاع عنهم وكف اللسان عن معايبهم: للأمير عند المسلمين مكانة ومهابة فتوقيره واحترامه من توقير أمر الله الذي ينفذه.