- الحياة البرلمانية لأي دولة هي صورة صادقة لواقع المجتمع حيث ان معظم التيارات السياسية والأفكار والآراء والمبادئ والقيم التي تسود في هذا المجتمع تنعكس سلبا وإيجابا على البرلمان وأعماله ودرجة فعاليته
أورد د.علي الصاوي في كتابه «البرلمان» عرضا عن نشأة البرلمان وتطوره، نبدأ بنشر أهم ما ورد في هذا الكتاب على شكل سلسلة من الحلقات الأسبوعية.
أين نشأ البرلمان؟
لم يكن البرلمان بدعة فكرية أو ابتكارا لأحد الفلاسفة وإنما جاء وليد تجارب وتاريخ طويل، فالأحداث التاريخية هي التي صنعته وحددت ملامحه الحالية. ولم يظهر البرلمان مرة واحدة، وإنما خاض مراحل متعددة، كان أكثرها مليئا بالصعاب والتحديات، استطاعت البرلمانات خلالها انتزاع سلطاتها من الملكيات المطلقة ونظم الحكم الاستبدادية. ولم تتبلور سلطات البرلمان دفعة واحدة وإنما اكتسبتها بالتدريج، حتى امتدت الى المسائل التشريعية والمالية والسياسية. ومع ظهور واستقرار البرلمان عرف العالم نوعا جديدا من نظم الحكم هو الحكومات البرلمانية، وتواصلت مسيرته على طريق الديموقراطية والمشاركة والتعددية السياسية، وحكم الأغلبية.
ويشير المؤرخون الى أن الحياة البرلمانية لأي دولة هي صورة صادقة لواقع وحقيقة مجتمع هذه الدولة، حيث ان معظم التيارات السياسية والأفكار والآراء والمبادئ والقيم التي تسود في هذا المجتمع تنعكس سلبا وإيجابا على البرلمان وأعماله ودرجة فعاليته.
فالبرلمان هو الممثل المباشر للجماهير، وهو الذي يشرع القوانين التي تحكم المجتمع، كما يراقب الحكومة في تصرفاتها نحو تنفيذ ما يتطلع إليه الشعب. وقد بلغ تطور دور البرلمان في بعض الدول مرحلة غير مسبوقة، حتى قيل في البرلمان البريطاني مثلا إنه يستطيع أن يفعل كل شيء عدا تحويل الرجل إلى امرأة والمرأة إلى رجل. ولقد تزامن تطور المؤسسة البرلمانية المعاصرة مع تاريخ البرلمانات الأوروبية، وخصوصا البريطانية والفرنسية.
فقد بدأ البرلمان الإنجليزي في مطلع القرن الثالث عشر يطالب بحقه في التشريع دون تركه للملك، الذي لم يعد معبرا عن إرادة الشعب. وفي عهد الملك شارل الأول، حدث الصدام بينه وبين مجلس العموم حول الضرائب، وكان الملك في حاجة لدعوة البرلمان للانعقاد لمواجهة نفقات تسليح الجيش لمواصلة توسعاته الإقليمية، واضطر الى قبول دور أكبر للبرلمان في مجال تحديد الضرائب، فيما عرف منذ ذلك الوقت بشعار لا ضرائب بلا تمثيل. وقد تنامى دور البرلمان خلال الحرب الأهلية في منتصف القرن السابع عشر، واندلعت الثورة الإنجليزية الكبرى، وكانت بدايتها الحقيقية في البرلمان.
كذلك، فقد ظهر الكونغرس الأميركي في غضون الثورة التي انتشرت في أواخر القرن الثامن عشر في المستعمرات البريطانية، وانتهت بإعلان الاستقلال وتأسيس اتحاد بين عدد من المستعمرات المستقلة. كما ارتبط الكونغرس بمرحلة مهمة في التاريخ الأميركي وهي الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، حيث كان مركزا للقوى التي تؤيد الاندماج في دولة واحدة، حتى تم تأسيس الولايات المتحدة الأميركية، الحالية.
وفي فرنسا، بدأ هذا التطور بما يسمى برلمان باريس، الذي ضم عددا من النبلاء، ثم اصطدم مع الملك منذ أواخر القرن الثامن عشر، وتحدى سلطته المطلقة، فتعرض أعضاؤه للنفي والاضطهاد، ولكن الجماهير تعاطفت معهم. ومع تأزم الحالة المالية للملك لويس السادس عشر، اضطر الى اجتذاب تأييد النبلاء والجمهور على السواء، بحثا عن وسائل تمويل خزانته الخاوية، وبالتالي كان لابد من الاحتكام للأمة واستشارة الجماهير، أي قبول تأسيس البرلمان وسلطاته. وأصبح محور الأحداث في ذلك الوقت هو إعلان دستور لفرنسا، وضمان وجود البرلمان وتحديد سلطاته، وأن يكون هذا البرلمان تعبيرا عن إرادة الشعب، واندلعت الثورة الفرنسية الشهيرة، وبدأ العهد الجمهوري لفرنسا من داخل أروقة البرلمان. ولم تكن مصر بعيدة عن هذا التطور، وإنما شاركت فيه، كما تأثرت به. فالحياة النيابية في مصر عريقة منذ ظهورها وخلال مراحل تطورها، وليست غريبة في ممارستها في المجتمع المصري على الإطلاق. على العكس من ذلك، فإن الملامح الأولى للتجربة النيابية في مصر تمتد الى منتصف القرن التاسع عشر، حين تبلور الشكل النيابي الأول في ظل حكم محمد علي، ومن بعده نشأت المؤسسة النيابية بالمعنى السياسي منذ عام 1866، تحت اسم مجلس شورى النواب، وذلك في عهد الخديو إسماعيل. كما ارتبط البرلمان بتاريخ الحركة الوطنية المصرية وكان محفزا لها، منذ حركة عرابي، ومرورا بثورة 1919 بزعامة سعد زغلول، وصدور دستور 1923 بعد حصول مصر على استقلالها من الإمبراطورية البريطانية، وحتى ثورة 23 يوليو 1952، بعد مرحلة حافلة من ازدهار الحياة البرلمانية، عرفت باسم مرحلة الديموقراطية البرلمانية، ثم إعادة تأسيس الأحزاب السياسية منذ منتصف السبعينيات من القرن العشرين.