محمد الحسيني
تقدم «دار الوطن» رواية المؤلف الشاب عبدالله غازي المضف الجديدة «المنتظر» على انها «رواية تكسر كل الاعراف التقليدية للرواية العربية»، وليس في ذلك اي مبالغة على الاطلاق، فالاقبال الحماسي للشباب على الرواية والنقاشات التي تدور حولها والتي صادفتني في العديد من المجالس واللقاءات - نظرا لمعرفة من التقيهم باهتمامي الكبير بعالم الروايات العالمية والعربية منها وبالتالي سؤالهم لي عنها - تؤكد انهم قرأوا تجربة جديدة وحية وشيقة في الكتابة.
«المنتظر» ليست من الروايات البسيطة والتي تتركز في كل فصولها حول حادثة محورية واحدة او شخصية اساسية يرتبط بها باقي الاحداث او الشخصيات، لانها مبنية على عدة خطوط درامية متوازية وتسير معا بشكل منظم وهادف.
في الرواية، التي تنطلق من فكرة دينية عالمية واسعة الانتشار ومثيرة للجدل، نجد انفسنا امام عالم تكبله خرافات وتفسيرات تُنسب للديانات السماوية وتجد لها في اوساط التطرف الديني والايديولوجي بيئة خصبة لتنمو بشكل مخيف، يصور لنا المؤلف ما يشكله من تهديد لمصير البشرية بأسرها.
فانطلاقا من موقعة «ارماجدون» النهائية التي ينتظرها اليهود ويؤمن بها قسم من المسيحيين، يبدأ المضف روايته حيث تخطط مجموعة متطرفة لاستنساخ السيد المسيح ( عليه السلام ) عبر زرع خلاياه الموجودة على قماشة مقدسة في رحم امرأة من اصل يهودي من باب التعجيل بظهوره ليخلص العالم من واقع الرذيلة والدنس الذي بلغه ويستدعي حلا إلهيا جذريا كالذي حل بقوم لوط ( عليه السلام ) في سدوم وعمورة.
ولأن المخطط لا بد ان ينطلق من مكان قريب من تلة «مجدو» المفترضة لحصول الموقعة والواقعة في فلسطين، يجعل المضف من الكويت مسرحا تعتمده تلك المجموعة لتستعد للحدث الجلل الذي تعمل من اجله! لم الكويت وليس اي دولة «شرق اوسطية» اخرى؟!
من احداث الرواية وشخصياتها التي يرسمها المؤلف باتقان نستنتج الجواب.
فالمضف يرسم شخوصا ينسبها الى التيارين الليبرالي والديني، محوراها الاساسيان زيد (الليبرالي) وشقيقه اسامة (الاسلامي) ليتحدث عن تردي الواقع السياسي في البلاد بكل ما يحفل به من صور الوصولية والشخصانية والانتهازية والاستغلالية، سواء للايديولوجيا او الدين في سبيل تحقيق اهداف لا تمت بصلة لمصلحة الوطن او الشباب الذين يجدون انفسهم في الشارع يتظاهرون املا في الاصلاح والتغيير، لكن دون بوصلات غير تلك التي يحددها لهم السياسيون.
وفي خضم الأحداث يسلط المضف الضوء على شخصيات مرتبطة بالشخصيتين الرئيسيتين تعيش كل منها معاناتها ومأساتها الخاصة فنتعرف على سارة ابنة اسامة التي فرض عليها والدها ما فرضه من طوق العادات والتقاليد الى حد الكبت حتى تتوجه للدراسة في مصر حيث تكتشف في اجواء صديقها السعودي معن عالما من الحرية تفجر فيه كبتها وتثور فيه بوجه الحصار الذي عاشته.
ونتعرف على اقبال التي تآمرت مع زيد ضد زوجها سعد ايام الاحتلال العراقي فوقع زوجها اسيرا وتركها مع ابنتها بدرية المصابة بداء الصرع، والتي حاول زيد ان ينهي مأساتها بارسالها الى مصحة للمجانين في لبنان، فيما وجده مناسبا ليفي بوعده لوالدتها بانقاذ ابنتها، وتقود الصدفة بدرية لتكون جزءا من محاولة استنساخ السيد المسيح بين لبنان واسرائيل!
ومن اكثر الشخصيات اثارة للجدل في الرواية شخصية عزام الابن غير الشرعي لزيد من الخادمة سلمى الذي يدخل العسكرية بواسطة من زيد ونتعرف عليه كشرطي معقد نفسيا يقوم بما يقوم به من ممارسات في الشارع وينتهي به الامر في مواجهة مع زيد مرشحا لرئاسة التجمع الليبرالي بدعم من الجهة الخارجية التي ترسم سياسات التجمع!
وبذكاء وعمق يقدم المؤلف لنا شخصيتي منذر ونبيل العائدين من الغرب، الاول الذي عاد لينخرط في الحركة الشبابية مع تأثره الشكلي بقيم الغرب خاصة في اسلوب الملبس والكلام، والثاني نبيل الشاذ جنسيا الذي ارتد الى المسيحية بعدما صور له دوغلاس المُخطِّط لمؤامرة الاستنساخ في الكويت بأن المسيحية لا تكفر الشاذين! وقد عاد نبيل الى الكويت ليس بهدف الاستقرار بل لاتمام دوره في المؤامرة ثم العودة الى اميركا، لكنه يدفع حياته ثمنا قبل ان يعود.
ونجد امامنا شخصية حصة الشابة المعاقة التي تقود الشباب بشعار الحاجة الى الصدمة او الـ trauma للقضاء على الفساد.
حصة، التي كانت تحب منذر قبل ان تنبذه بسبب تقمصه بشكل ممجوج الشخصية الغربية رغم انها هي نفسها درست في الغرب، تعيش حالة الحماس لرفض مشروع تلزيم صندوق الاجيال القادمة الى شركة اوروبية كما ينادي الليبراليون او لشركة عربية كما يفضل الاسلاميون! وبعد النزول الى الشارع تصدم حصة بقدرة السياسيين على استغلال الشباب في ظل استقالة الصحافة الوطنية من دورها وغياب النهج الوطني فتقرر الاعتزال.
وفي ظل ضوضاء الاحداث السياسية تجد حصة نفسها مشدودة ليوسف الشخصية التي تتراءى امامها في كل ندوة ثم يكشف لنا المؤلف انها شخصية اسير أعاده المضف الى دائرة الاحداث ليجسد الفارق بين الشرف والنزاهة والوطنية الحقة من جهة، والفساد والاستغلال والوصولية من جهة أخرى.
«كم يحتاج الكويتيون لإحياء الصدمة التي خلفها الاحتلال الآثم ووحدتهم بكل طوائفهم وقبائلهم واطيافهم، وما ابعدهم عن ذلك اليوم».
هذه هي رسالة يوسف.. وهذه هي رسالة الأسيرين بدر وسعد اللذين اعيدت رفاتهما الى البلاد.
لن استفيض اكثر في تفاصيل الشخصيات الاخرى بالرواية (عشري، زيزي، مبروكة، ساندرا...)، كي لا احرم القارئ الذي لم يطلع عليها بعد من الاستمتاع بتفاصيلها.
ولكني بصدق اجد نفسي متحمسا لدعوة كل محب للأدب لأن يطلع عليها، بالتأكيد الكويت ليست بالصورة السوداوية التي تعكسها شخصيات «المنتظر»، لكنها بالنهاية رواية تتنقل بين الخيال والواقع وبين شر مطلق ومثالية مطلقة وفق الحدود التي رسمها المؤلف، ليترك اكبر اثر في نفس القارئ.
وبالرغم من انه لابد وان يستنتج كل من يقرأ «المنتظر» ان فيها اسقاطات على شخصيات تعيش بيننا وفي صميم واقعنا، وان اولئك الذين انجبهم خيال عبدالله المضف هم المسؤولون عما يعتري المجتمع من مظاهر الفساد والرجعية، سواء اكانت محلية ام مستوردة، إلا انني لست بصدد البحث في ذلك، بل اقصر نقدي على القيمة الادبية للعمل بما يحفل به من ترابط وجرأة وجمالية في الاسلوب وتشويق في تسلسل الاحداث.
لا اخفي اني وجدت في بعض فصول الرواية الـ 64 التي يقدمها المضف في 430 صفحة من القطع المتوسط بعض الحشو (بالمعنى التقني للكلمة) احيانا، خاصة بدخوله الى مساحات في السياسة الدولية، كان من الممكن تجنبها لأنها لم تضف الى الرواية الكثير، إلا ان العمل بالمجمل عمل يستحق الاشادة والتشجيع بالمقاييس الادبية.
مع الانتهاء من الغوص في أعماق «المنتظر» نخرج بانطباع جلي أننا امام مؤلف مثقف وقلم يفيض بالموهبة والثقة وصوت جريء لم يخش ان يبلغ آفاقا جديدة في النقد الاجتماعي والسياسي من خلال رؤيته لوطنه او لما يرغب ان يكون عليه وطنه.
في «المنتظر» كم هائل من الرسائل ذات المدلولات العميقة، تعبر عن جيل كامل يرغب برؤية بلده في حال افضل بكثير مما هو عليه اليوم، يتطلع الى طبقة سياسية اكثر نقاء والى عالم اكثر تسامحا، عالم تسوده وتحكمه الوسطية لا التطرف الذي يجلب الدمار والويلات على الشعوب، والى مجتمع يحتاج الى العودة للجوهر الحقيقي سواء للدين او الايديولوجيا، والاهم لمجتمع يحتاج الى القدوة والنموذج الصادقين والكفيلين بتحقيق التغير المأمول.
الصفحة في ملف ( pdf )