محمد الحسيني
ما ان وقعت رواية ڤانيلا للزميل وليد جاسم الجاسم بين يدي حتى رحت أتأمل غلافها الذي شدني تصميمه بصراحة.
فقرون الڤانيلا السوداء في الإناء الزجاجي وصور القردة في الخلفية مشهد جميل حرّك مخيلتي ولامس شعورا لطيفا في داخلي، أنا المحب للنبات والحيوان والمشفق عليهما لأنهما الطرف الأضعف في الطبيعة!
واللونان الأبيض والكحلي يبعثان الهدوء في النفس ويوحيان لوهلة بأنك على اعتاب عالم تلفه الطمأنينة ويغفو في أجواء سكرية عسلية، فهل أرق وأطيب من عبق الڤانيلا؟
لم أكن اعرف انه هدوء ما قبل الزوبعة التي تضج بها سطور الرواية.
على مر التاريخ لم يُثر جدل ربما بحجم الجدل الذي أثير ـ وما زال ـ حول نظرية «التطور البشري والانتخاب الطبيعي» لتشارلز داروين التي استهل بها الجاسم العمل.
أول ما يلفت القارئ ان المؤلف لم يطرح النظرية لمجرد توظيفها لاحقا في تصوير «التطرف النفسي» الذي يعانيه بعض شخوص الرواية ـ كما يصورهم ـ وانما طرحها ايضا للتمهيد الى موضوع الرواية الصارخ بجدليته، والذي لا يترك الجاسم في نهايته حلا وسطا أو أدنى تفهم، بل يصدر حكما قاطعا بشأن الفرز الاجتماعي بكل وجوهه (طبقي ـ ديني ـ طائفي واثني...) في إدانة صريحة لأي مظهر من مظاهر العنصرية أو العُصبوية، فخلاصة «ڤانيلا» ان الفرز الحاصل في الكويت ظاهرة سلبية ترقى الى مستوى معاداة.. الانسانية.
وبواحدة من نهايات التجارب المطروحة في العمل نجد ان زواج كويتية تنتمي الى طبقة من يسمون «أصحاب الدماء الزرقاء» أو «عيال بطنها» (وهما بالمناسبة مصطلحان شعبويان متطرفان مع ان المقصود منهما توصيف تطرف معين!) من هندي مسيحي ابن سائق وخدامة، هو امر يرقى الى مستوى الجريمة.. جريمة اجتياز الحدود الطبقية والمس بالأعراف الاجتماعية، ولا يشفع له انه مولود في الكويت وعاش مع عائلة الفتاة نفسها ومستعد لاشهار اسلامه وتخرج كطبيب.
يشكل موضوع الرواية «تابو» (محظور) دسما اقتحمه الجاسم. والعمل ـ بعكس ما قد يُستشف من عنوانه الحالم والرومانسي بما للڤانيلا من رمزية ـ ينتمي الى المذهب الواقعي.
المذهب الواقعي في الأدب جاء تاريخيا كردة فعل على «الكلاسيكية» (التقليدية) و«الرومانسية» بما يحفلان به من مغالاة ومبالغة وشطط، لكنه لا يعني بالضرورة الالتزام التام بالواقع أو الحقيقة مهما بلغ حرص المؤلف، وقد اثبتت التجربة ان الكثير حتى من كبار الأدباء الواقعيين قد اسرفوا في الواقعية وردوا على المذهبين الأولين بإفراط في تصوير واقعية الأمور الى حد «التعرية» سواء في ذكر التفاصيل أو الحديث عن الانفعالات والمشاعر فهم في النهاية يرون الواقع بأعيـــنهم وعادة ما يبـــلغون خلاصاتهم الذاتية، حتى ان بعضهم (المتأخرين من الواقعيين) يعتبر ان «الواقعية» ليست مجرد تصوير للواقع بل هي مسعى لاظهار وجوهه الخـــــفية وتفاصيله غير المرئية.
ولذلك لا اريد الحكم على «ڤانيلا» من زاوية تأييد ما تتركه أو توحي به من انطباع ورأي عن المجتمع لانها في النهاية رواية وليست مقالة رأي او دراسة، كما ان «المحافظة المطلقة المتشددة» و«الليبرالية المطلقة» في المقابل مفهومان متطرفان وعلى طرفي نقيض، ويزدادان تعقيدا في الكويت حيث غالبا ما تقترن الليبرالية الفكرية والاقتصادية بأقصى درجات المحافظة الاجتماعية ما يزيد من تعقيد الصورة.
ولا يخلو مجتمع على الارض من وجود وجه من وجوه العنصرية مهما بلغ من تحضر، وذلك يقودنا الى مسألة اقصى بعدا في عمق الفلسفة وهي الطبيعة الانسانية نفسها وما اذا كانت مجبولة في فطرتها على العدالة والمساواة والحرية المطلقة كغايات مثلى تسعى البشرية اليها يوما، او ان هذه الطبيعة على العكس مجبولة على الميل الى التحزب العنصري ـ على اختلاف وجــــوهه ـ وان البشر لم يتقاربوا الا في اطار السلام الضروري للبقاء والمحافظة على وجودهم كبديل عن العنف و«الإلغائية» اللذين رغم ذلك لا يزالان يتفجران يوميا على الكثير من مسارح الحياة الانسانية.. ومن الواضح ـ في رأيي ـ ان الرواية تميل الى الاعتقاد الاول وقد بنيت على أساسه.
اود ان ادلف الى تقييم «ڤانيلا» كعمل ادبي جمالي، باسلوبه وأفكاره وليس بأبعاده.
اننا امام رواية قصيرة وممتعة من القطع الصغير حافلة بالاثارة والتشويق، بسيطة وسلسلة في لغتها، وادخال المصطلحات الكويتية عليها زادها غنى وواقعية. وهي من النوع البسيط بتركيبته، فنحن امام اسرة واحدة محورية (أسرة عبدالله) لا يدخل معها الا عائلتا الجار «باقر» والعم «ابوسالم» ليكونا شاهدين على ان التمييز الاجتماعي ليس ذا بعد خارجي جغرافي ويقوم على الجنسية او الدين فقط انما له ايضا ابعاد اخرى داخلية، فكما الانسانية طبقات تتنكر لحقائق يؤكد التاريخ (في الرواية مثال عن العادات والعلاقات التاريخية المشتركة بين الكويت والهند خاصة على مستوى المأكل)، فالمواطنة بدورها طبقات.
ومن يقرأ «ڤانيلا» وهو يعتقد ان ما طُرح في التاريخ من نظريات عنصرية افرزت النازية والفاشية والتمييز في اللون ودفعت الانسان في بعض المراحل لإجراء ابحاث جينية لاثبات تفوق البيض على السود بيولوجياً لم تنقرض بعد! بل لاتزال على نفس الحدة واكثر في المجتمع الكويتي، وحتى نظرية داروين التي اثبت العلم الحديث عدم صحتها، لان التطور الانساني الذي تفترضه يحتاج علميا لفترات زمنية كبيرة بين كل مرحلة تحول وأخرى بما لا يتوافق مع تاريخ الانسان الحالي على الارض، كما تدلنا علوم الآثار والانثروبولوجيا والحضارة الانسانية والبيولوجيا.. ومع ذلك فإن هذه النظرية لاتزال مترسخة في الكويت، كما يبين لنا المؤلف.
الرواية لم تأت عامة بمكانها وزمانها بل جــاءت محددة الأركان بشكل لا يقبل أي لبس او تأويل وهو ما يعزز مراميها الاجتماعية. ولذلك اتوقع ان أول سؤال يواجه الزميل وليد الجاسم بأي مناسبة يحضرها هذه الأيام هو: من المقصود في «ڤانيلا»؟!
ختاما نقول ان ڤانيلا «لعنة» للطبقية ينبغي الحكم عليها على مستويين: المستوى الكوني الإنساني والمستوى المحلي.
فعلى المستوى الأول هي صرخة مطالبة بالعدالة والمساواة وكسر القيود الاجتماعية، ولذلك ستلقى بالتأكيد صدى طيبا في الخارج حيث سيُنظر الى الجاسم خاصة من قبل جمهور الليبرالية العربية والعالمية على انه مؤلف متمرد، اقتحم المحظور في مجتمعه وطبقته. ولكن على المستوى المحلي حيث لدى القارئ بُعد غير متاح بالضرورة امام الفهم الخارجي، قد يختلف الامر، وتُقابل الرواية بانقسام في الرأي حيال ابعادها، لأن النظرة الى هوية المجتمع من داخله مختلفة، وهناك شريحة مهمة من الكويتيين ترى ضرورة الحفاظ على الواقع من منطلق ان «الطبقة» تشكل «سور» حماية بالمنطق المحافظ، الذي يرفض كذلك تصوير فئة الشباب فيه بأكملها على انها «معارك ابن المعزب» السكّير وزير النساء، او منيرة الرافضة لمبدأ الزواج من ابن عمها او حتى «هيه» الارملة الوفية التي حاولت إقناع ابنيها بالحفاظ على الثوابت وعندما فقدت السيطرة عليهما اختارت الطريق نفسه.
ولكن إذا كانت ڤانيلا تثير الانقسام حول ابعاد مضمونها فإني أتوقع انها ستحظى على الأرجح بشبه اجماع حول كونها عملاً أدبيا جميلا وممتعاً.. ولعل استفزازنا للتعليق عليها وعلى كم الجـــدلية فيـــها دليل على انـــها تجـــربة ناجحة اكتشفنا فيها موهبة أخرى من مواهب الاعلامي اللامع وليد الجاسم.
الصفحة في ملف ( pdf )