- المأساة تستحق البحث العلمي العميق والاعتراف الكامل والإدانة على الصعيد الدولي
- الذكرى تعد تحذيراً للبلدان والشعوب الأخرى التي لا تريد أن يتكرر ذلك على أراضيها
- استقلال أوكرانيا فتح الآفاق الواسعة لإعادة العدالة التاريخية بحق ملايين الأبرياء القتلى
- المجتمعات المحلية الأوكرانية تقوم بإعداد قوائم أسماء ضحايا المجاعة الجماعية الكبرى وترتيب المقابر الجماعية لضحايا المأساة
يحيي الشعب الأوكراني مع العالم كله اليوم الذكرى الـ 80 للمجاعة الجماعية الكبرى (أو باللغة الأوكرانية «هولودومور» أي «القتل بالتجويع») التي حدثت في عامي 1932 ـ 1933م وهي تعتبر أسوأ مأساة وطنية وأكبر كارثة إنسانية في تاريخ البشرية.
بالتأكيد في مطلع الثلاثينيات للقرن الماضي قد تعرض للمجاعة العديد من مناطق الاتحاد السوفييتي السابق (منطقة كراسنودار والفولغا وبيلاروس وكازاخستان) التي أصبحت المأساة المشتركة للشعوب المقيمة فيه ولكن الطبيعة الاصطناعية ومدى ضحايا هذه الظاهرة في أوكرانيا وكذلك أسبابها وآثارها المستقبلية على تشكيل الأمة الأوكرانية يجوز لنا أن نفصل المجاعة الجماعية الكبرى لعامي 1932 ـ 1933م في أوكرانيا كواقعة منفصلة تستحق بالبحث العلمي العميق والاعتراف الكامل والإدانة على الصعيد الدولي.
الخلفية التاريخية: روح الاستقلالية
إن القرن العشرين على الكوكب كله عبارة عن عصر تقرير المصير الوطني للشعوب الأصلية. ولا تستثنى الأمة الأوكرانية من المشاركة في هذه العملية.
نتيجة لثورة فبراير عام 1917م تم إنشاء المجلس المركزي في أوكرانيا الذي شمل العديد من الأحزاب السياسية والجمعيات الوطنية.
وبموجب مرسومه الثالث، أعلن المجلس المركزي عن إقامة جمهورية أوكرانيا الشعبية وبالتالي بموجب مرسومه الرابع في 4 يناير عام 1918م - استقلال أوكرانيا.
ومع ذلك في اواخر عام 1917م قد دخلت القوات الروسية البلشفية في أوكرانيا وبعد السنوات القليلة احتلتها مما أدى ذلك إلى إزالة جمهورية أوكرانيا الشعبية وتأسيس جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفييتية في أراضيها قبل إعلان استقلال أوكرانيا في عام 1991م.
في أواخر العشرينيات للقرن الماضي قد عزز جوزيف ستالين دوره القيادي في النظام السوفييتي الذي تولى مقاليد السلطة المطلقة سواء في الحزب الشيوعي أو الدولة.
وكان هدفه الرئيسي يعبر عن تحقيق فكرة الثورة العالمية بقيادة الاتحاد السوفييتي وبناء النظام الاشتراكي في بلد واحد منفرد.
وكان من الضروري القيام بالتحديث الصناعي العسكري وذلك عن عدة طرق: إنشاء المزارع التعاونية بشكل إجباري قسري والتصنيع المسرع.
إن الانتقال إلى التصنيع المسرع الذي دعت إليها القيادة الستالينية في أواخر العشرينيات للقرن الماضي قد أدخل في جدول الأعمال مسألة الموارد اللازمة لتنفيذه.
وكان من المفترض أن يتم توفيرها عن طريق شراء الحبوب عند الفلاحين بأسعار منخفضة وبيعها في الخارج. لكن الفلاحين لم يرغبوا في بيع خبزهم بلا شيء.
وبعد الأزمة المتعلقة بتخزين الحبوب خلال عامي 1927 ـ 1928م سعت القيادة السوفييتية إلى توجيه الهجوم الواسع النطاق على الاستقلال الاقتصادي للفلاحين.
وتم إعلان السياسة العامة المستهدفة إلى إنشاء المزارع التعاونية وقد تعرضت أوكرانيا المعروفة تحت اسم «سلة الخبز للاتحاد السوفييتي» التي يتركز في أراضيها تقريبا ثلث الموارد العالمية للتربة السوداء الخصبة لهذه العملية في المقام الأول.
ومع ذلك، كانت المقاومة الجماعية في أوكرانيا قوية للغاية انطلاقا من المستوى العالي للمزارع العائلية الفردية القادرة على العمل الناجح في حقولها الخاصة.
وقد أدت السياسة الشمولية للنظام البلشفي إلى إثارة أعمال مقاومة الفلاحين الأوكرانيين.
على سبيل المثال، في عام 1930م وقعت في أوكرانيا حوالي 4098 انتفاضة تشمل أكثر من 1.2 مليون مشارك و1061 انتفاضة (حوالي 250 ألف مشارك) في منطقة شمال القوقاز التي مثل الأوكرانيون جزءا كبيرا من سكانها.
وهكذا اشتدت الرقابة الشاملة للدولة والحزب الشيوعي على المجتمع ويرافقها القضاء على التنازلات في المجالات الوطنية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية.
إن النخبة الوطنية القوية والفلاحين المستقلين اقتصاديا والواعيين وطنيا عبروا عن التهديد الرئيسي للبلاشفة.
ويدل على ذلك ما يلي في كتاب جوزيف ستالين إلى لازير كاهانوفيتش بتاريخ 11 أغسطس عام 1932م: «... أهم شيء الآن هو أوكرانيا.
ويسير الوضع فيها من سيئ إلى أسوأ. إذا لم نقم الآن بمعالجة الوضع في أوكرانيا، فمن الممكن أن نفقدها نهائيا..».
وكان الهدف الرئيسي لقيادة الاتحاد السوفييتي عبارة عن القضاء على الجزء الواعي وطنيا والنشيط سياسيا من المجتمع الأوكراني.
وقد ألحق هذا التدمير الأضرار لكل أطراف الأمة الأوكرانية في الاتحاد السوفييتي.
وكان جوهر الجريمة التي ارتكبها بلاشفة الاتحاد السوفييتي في أوكرانيا وبلغت نقطة الأوج خلال عامي 1932 ـ 1933م إزالة جسدية لوعي الأوكرانيين السياسي الذي شكل الفلاحون الأغلبية فيهم.
تطور الأحداث
وترتب السبب الرئيسي للمجاعة الجماعية الكبرى لعامي 1932 ـ 1933م على الأساليب الحكومية المستخدمة في عملية تخزين الحبوب التي تم القيام بها عن طريق سحبها الإجباري المركز.
وفي عام 1931م اضطر الفلاحون الأوكرانيون إلى إعطاء أكثر من 40% من المحصول الكلي، مما أدى إلى انتشار الجوع حتى في نهاية عامي 1931 ـ 1932م.
بالرغم من ذلك، في يوليو عام 1932م تم اعتماد الخطة الجديدة لتخزين الحبوب من المحصول لعام 1932م وهي غير واقعية عمدا وغير قابلة للتنفيذ.
وفي الحقيقة، أنشئت الظروف الملائمة لمصادرة جميع مخزونات الحبوب.
ومن أجل مجازاة أولئك الفلاحين الذين فشلوا في تنفيذ خطة تخزين الحبوب استخدمت الحكومة الطريقة القمعية الخاصة غير القضائية التي عبرت عن إدخال المجالس القروية والقرى والمزارع التعاونية في قائمة «اللوحات السوداء» بسبب عدم وفائها بخطة تخزين الحبوب.
والإدخال في «اللوحة السوداء» المقصود به هو إعلان حالة الطوارئ في بعض المناطق السكنية وإجراء التدابير القسرية: حظر القرى وإيقاف توفير السلع ومنع التجارة وإخراج المنتجات من المتاجر وعدم السماح بطحن الحبوب إلى الدقيق.
والدليل الواضح على التنظيم المتعمد للمجاعة الجماعية الكبرى لعامي 1932 ـ 1933م في أوكرانيا هو القرار الموقع من قبل جوزيف ستالين في 22 يناير عام 1933م الذي نص على منع الفلاحين عن مغادرة أراضي جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفييتية إلى المناطق الأخرى للاتحاد السوفييتي.
وفي 7 أغسطس عام 1932م صدر القرار «بشأن حماية الملكية الاشتراكية» الذي كان يسمى «قانون خمسة سنابل». وبموجب هذا القرار كان يجوز إدانة حتى الأطفال الذين التقطوا سنابل القمح في الحقول بعد جنى المحصول فيها.
إن قادة النظام الشمولي البلشفي نظموا ونفذوا المجاعة الجماعية في أوكرانيا وخلقوا الظروف المعيشية المستهدفة إلى التدمير الجسدي لجزء من المجموعة الأوكرانية الوطنية وذلك عن طريق استخدام الأدوات والأساليب التالية:
٭ وضع خطة تخزين الحبوب في أوكرانيا على المستوى العالي غير القابل للتنفيذ واقعيا. وما كان من الممكن تنفيذ هذه الخطة إلا في حالة اتخاذ الإجراءات القمعية الإجبارية الهادفة إلى المصادرة الكاملة للحبوب والبذور عند الفلاحين.
٭ إدراج المناطق السكنية والمزارع التعاونية والمجالس القروية إلى قائمة «اللوحات السوداء» الذي كان المقصود به منع سكانها عن مغادرة أراضيها والمصادرة الكاملة للمواد الغذائية وحظر التجارة،
٭ عزل أوكرانيا من قبل الوحدات الخاصة المسلحة والوحدات العسكرية والشرطة.
٭ فرض القيود على حرية الحركة للفلاحين بحثا عن الطعام ومنع تبادل المراسلات.
٭ وضع «العقوبات المادية».
٭ إجراء عمليات التفتيش المنتظمة لمصادرة الحبوب ومخزونات البذور والممتلكات والملابس وجميع المواد الغذائية والأطعمة الجاهزة.
٭ تعزيز تدابير القمع الجنائية، بما في ذلك إعدام الأشخاص الذين قاوموا أعمال السلطات المستهدفة إلى مصادرة الحبوب واللحوم والبطاطا وعباد الشمس وغيرها من المواد الغذائية.
>>>
إن الحقيقة التاريخية عن الجريمة التي ارتكبها النظام الشمولي الستاليني تعود تدريجيا من النسيان وبالتالي تساهم في استعادة الذاكرة الوراثية للأمة الأوكرانية.
ويساعد فهم قواعد عمل النظام القمعي السوفييتي خلال أكبر موجة من القمع على وضع الآليات لمنع ظهور نظام استبدادي في المستقبل.
وفي الوقت نفسه يجب أن تكون المأساة الأوكرانية تحذيرا للبلدان والشعوب الأخرى التي لا تريد أن يتكرر ذلك على أراضيها.
وتقوم سفارة أوكرانيا لدى الكويت مع البعثات الديبلوماسية الأخرى خارج البلاد والشعب الأوكراني كله بإحياء ذكرى هذه المأساة ببالغ الحزن ويذكر الجميع أفراد أسرهم الذين لقوا حتفهم في غضون المجاعة الجماعية الكبرى «هولودومور».
الخصائص والآثار: وجهة النظر الخاصة لرافائيل ليمكين
تحظى ببالغ الاهتمام دراسة ملف المجاعة الجماعية الكبرى لعامي 1932 ـ 1933م في أوكرانيا التي قام بها رافائيل ليمكين وهو معد مفهوم «إبادة جماعية» الذي وضع في أساس جميع الوثائق القانونية الدولية والوطنية الحديثة وليس من المبالغ القول إنه تحتل أفكاره مكانة مهمة جدا في العلوم التاريخية والقانونية الأوكرانية.
وكان رافائيل ليمكين يعتقد أن مجاعة «هولودومور» هي المثال الكلاسيكي للإبادة الجماعية السوفييتية التي تعبر عن أطول وأوسع محاولات القضاء على الأمة الأوكرانية التي هي كبيرة جدا للتدمير بطريقة عادية.
وبالعكس النخبة الدينية والفكرية والسياسية صغيرة جدا وقابلة للتصفية، لذلك سعت القيادة السوفييتية إلى تطبيق عدد من الأدوات المعتادة: الإزالة الجماعية والتهجير والعمل القسري والطرد والتجويع.
في عام 1953م في مدينة نيويورك ألقى رافائيل ليمكين الكلمة تحت عنوان «الإبادة الجماعية السوفييتية في أوكرانيا» التي من خلال تحليل تقنياتها حدد أربعة عناصر لها:
1 ـ إزالة نخبة المفكرين والمثقفين الأوكرانيين ـ «مخ أو عقل» الأمة، وعلى مدى سنوات 1920 و1926 و1930 ـ 1933م تعرض العديد من المعلمين والكتاب والفنانين والمفكرين والقادة السياسيين للقتل والسجن والتهجير.
وفي عام 1931م فقط تم تهجير حوالي 51 ألف شخص مثقف إلى منطقة سيبيريا وقد لقي نفس المصير على الأقل 114 شاعرا وكاتبا وفنانا من أبرز أبناء الأمة الأوكرانية.
2 ـ إزالة الكنيسة الأوكرانية ـ «روح» أوكرانيا عن طريق القضاء خلال فترة ما بين أعوام 1926 ـ 1932م على الكنيسة الأوكرانية الأرثوذكسية المستقلة ومطرانها فاسيل ليبكيفسكي وعشرة آلاف كاهن.
3 ـ تقويض أسس الفلاحين الأوكرانيين ـ مجموعة كبيرة من المزارعين المستقلين الذين حافظوا على الثقافة واللغة والتقاليد الأوكرانية.
وإن الفلاحين الأوكرانيين كعنصر مكون مهم للأمة الأوكرانية سقطوا ضحية من أجل تشكيل الشعب السوفييتي الموحد.
واعتبارا من عام 1928م نتيجة لعملية نزع ممتلكات الفلاحين الأغنياء، تم القضاء على 280 ألفا من أفضل العائلات الواعية وطنيا والمستقلة اقتصاديا والمحبة للعمل.
4 ـ إسكان أوكرانيا بالعناصر العرقية الغريبة من أجل تدمير الوحدة الديمغرافية والتغيير الجذري في التركيبة العرقية للسكان وكذلك ترحيل ممثلي الأمة الأوكرانية إلى جميع أنحاء أوروبا الشرقية وآسيا.
ونتيجة للمجاعة الجماعية والتهجير، قد انخفض عدد السكان في أوكرانيا من 23.2 إلى 19.6 مليون نسمة في حين ازداد عدد السكان غير الأوكرانيين بـ 5.6 ملايين نسمة.
وبموجب المعلومات الواردة في الدعوى القضائية التي رفعتها خدمة الأمن لأوكرانيا بشأن المجاعة الجماعية الكبرى لعامي 1932 ـ 1933م، قد تبين أن عدد الضحايا الإنسانية الناتجة عنها بلغ 3 ملايين و941 ألف شخص.
ومع ذلك، تقدر خسائر الأشخاص غير المولودين بـ 6 ملايين و122 ألف نسمة.
وأدت المجاعة الجماعية الكبرى ليس إلى القضاء الجسدي للملايين من الناس وتدمير المؤسسات الشعبية الاجتماعية والاقتصادية والتقليدية ووقوع التغيرات الأخلاقية والنفسية في وعى الأمة الأوكرانية فقط فحسب بل كسر طريقة الحياة التقليدية للمزارعين الأوكرانيين.
وتم تدمير المقدرة الإنسانية العالية للقرية الأوكرانية ولم تتم استعادتها أبدا.
الاعتراف القانوني على الصعيدين الوطني والدولي
في 28 نوفمبر عام 2006م، بناء على مبادرة الرئيس الأوكراني فيكتور يوشتشينكو، صدق المجلس الأعلى (البرلمان) لأوكرانيا على قانون «المجاعة الجماعية الكبرى لعامي 1932 ـ 1933م في أوكرانيا» الذي اعترف بها إبادة جماعية بحق الشعب الأوكراني فيه.
وقد أعرب حوالي عشرين بلدا آخر عن نفس التقدير لأحداث «هولودومور» التاريخية.
وفي نوفمبر عام 2003م اعتمدت الدورة الثامنة والخمسون للجمعية العامة للأمم المتحدة «البيان المشترك بمناسبة الذكرى الـ 70 للمجاعة الجماعية الكبرى التي حدثت في عامي 1932 ـ 1933م» ووصفتها مأساة وطنية للشعب الأوكراني.
وفي نوفمبر عام 2007م اعتمدت الدورة الرابعة والثلاثون للمؤتمر العام لليونسكو بالإجماع القرار بشأن «إحياء ذكرى ضحايا المجاعة الجماعية الكبرى في أوكرانيا» وأعربت فيه عن قناعتها بأن تسليط الضوء على جميع جوانب المجاعة الجماعية الكبرى لعامي 1932 ـ 1933م سوف يكون تذكيرا للأجيال الحديثة والقادمة عن ضرورة تعزيز القيم الديموقراطية وحقوق الإنسان والحقوق المدنية.
وفي يوليو عام 2008م اعتمدت الجمعية البرلمانية لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا قرارا أحيت فيه ذكرى ملايين الأوكرانيين الأبرياء الذين لقوا مصرعهم أثناء المجاعة الجماعية الكبرى لعامي 1932 ـ 1933م نتيجة للتجويع الناتج عن الإجراءات المتعمدة العنيفة والسياسة الشمولية للنظام الستاليني.
وفي 28 أبريل عام 2010م اعتمدت الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا قرارا بشأن إحياء ذكرى ضحايا المجاعة الجماعية الكبرى في الاتحاد السوفياتي السابق واعترفت بأنها ترتبت على الأعمال المتعمدة القاسية وسياسة النظام السوفييتي وألحقت الضرر الأكثر لأوكرانيا وتعبر عن الجريمة ضد الإنسانية.