بقلم: د.يعقوب يوسف الغنيم
فاجأنا الأسبوع المنصرم بخبر شديد الوطأة على النفس، ولاشك في أن من أصعب الأمور على الإنسان أن يفقد من ارتبط به بصداقة متينة، وعاش معه أياما جميلة. فقد جاءني خبر فزعت فيه بآمالي إلى الكذب كما قال المتنبي، ولكن حقيقة هذا الخبر لم تدع لي أملا فشرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي. لقد عبر الشاعر العربي الكبير عن إحساسه بفقد من يحب، وأنا بعد استماعي لما جاءني به الخبر أحس بإحساسه وامتلئ حزنا وجزعا.
ذلك لأنني فقدت أخا عزيزا وصديقا كريما أمضيت معه أياما كانت من أسعد الأيام في دوحة الأستاذ العلامة محمود محمد شاكر. وهناك بدأ أول لقاء لي بالفقيد د.ناصرالدين الأسد، الذي كان من المداومين على حضور تلك المجالس التي تنعقد كل مساء في منزل الأستاذ، وكان حريصا ـ أيضا ـ على حضور جلسات أيام الثلاثاء، حيث نلتّف حول شيخنا لكي نستمع إليه وهو يلقي علينا دروسه الملأى بالفوائد، وهي دروس كان يشرح لنا خلالها كتاب الأصمعيات لعبدالملك بن قُريب الأصمعي.. وكان د.الأسد حريصا على الانتظام في الدرس، وعلى المتابعة قبله وبعده، وكانت له استفسارات نستفيد من إجابات أستاذنا عنها. لأنها صادرة من رجل متمكن من مادة الشعر، فقد كان من خريجي قسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وواصل دراسته فيها إلى أن حصل على شهادة الدكتوراه في بحث من أهم البحوث التي كتبت عن الشعر الجاهلي. وقد اهتمت مؤسسة دار المعارف للنشر في مصر بهذا البحث فنشرته على شكل كتاب ما عمم الفائدة به، وعنوان كتاب د.ناصرالدين الأسد هو «مصادر الشعر الجاهلي». وقد درس هذا دراسة واسعة أكسبته قدرة كبيرة على فهم الشعر واستعدادا هو استعداد الموهوبين لمدارسته.
كنا نجلس معه في غير وقت الدرس فيتحدث معنا أحاديث كثيرة عن تجاربه ودراساته وأعماله. وهو في ذلك الوقت موظف كبير في جامعة الدول العربية، إذ كان مديرا لدائرة الثقافة بها. وقد انقطع عنا فترة ذهب خلالها إلى ليبيا، حيث أنشأ للحكومة الليبية السابقة كلية الآداب التي كانت نواة لجامعة تلك البلاد، وعندما عاد رجع إلى موقعه المعتاد ورجعنا إلى الاتصال به. ذلك الاتصال الذي لم ينقطع، فقد حدث أن تخرجنا في كليتنا التي كنا ندرس بها في جامعة القاهرة، وهي كلية دار العلوم وعدنا بعد أن حرصنا على أن يعرف عدد من إخواننا جلسات الأستاذ بما في ذلك جليسه الأثير د.ناصرالدين الأسد. ولئن كنت صديقا مقرّبا إليه، فقد كان أخي د.مرزوق وأخي د.عبدالله كذلك، وقد عرفاه مثل ما عرفته وصارت لهما به صلة قوية، وبعد فترة انتقل من عمله في القاهرة، حيث عاد إلى بلاده الأردن وصار عميدا لكلية الآداب، ثم رئيسا للجامعة، فوزيرا للتعليم العالي، وفي هذه الأثناء كانت له زيارات متعددة إلى الكويت بحكم طبيعة عمله، وبحكم خبراته التي تحتاج إليها بعض المؤسسات هنا، وكانت زياراته هذه تحمل ضمن برامجها اللقاء بنا عدة مرات في الزيارة الواحدة، وقد سعدت به ديوانية الثلاثاء والصحب الذين يجلسون فيها. وعندما يتحدث إليهم فإن شوقهم إلى حديثه الطلي يدفعهم الى أن يتمنوا عليه أن يستمر، ففي كل ما يقوله فائدة لأنه ـ رحمه الله ـ كان كنزا من كنوز المعرفة.
والتقينا معه مرارا في الأردن في مناسبات متعددة كان أهمها أنه صار بعد أن خرج من الوزارة رئيسا لمؤسسة آل البيت، وهي مؤسسة خيرية حكومية ذات نشاط ثقافي يجتمع في عضويتها عدد كبير من أبناء الوطن العربي، وقد كنت والأخ عبدالله يوسف الغنيم أحد الأعضاء، وكانت لقاءاتنا في الكويت عن مصير دروسنا التي تلقيناها من الأستاذ محمود محمد شاكر. وكان يتمنى أن يعرف أن أحدا منا كان يهتم بتسجيلها كتابة، ثم يحتفظ بها إلى حين، وقد كان سعيدا حين أبلغته بأنني كتبت جميع الدروس واحتفظ بها في مكان أمين. وقد طلب مني الاطلاع عليها. ولكن ضيق وقته وسرعة عودته لم يمكني من إطلاعه على دفاتري. ولقد كان مفاجئا لي أن استمع إلى صوته عبر الهاتف، وهو ممتلئ فرحا حين تلقى نسخة من كتابي: «قراءة في دفتر قديم» الذي يحتوي على تلك الدروس، وكان يردد: «كيف صنعت هذا؟» وقد أيقنت أن استفساره هذا بمثابة شهادة تدل على حسن الصنع، وشكر لذلك.
وكان للدكتور ناصرالدين الأسد عدة مشاركات في الندوات والمحاضرات والمؤتمرات الثقافية، وكان اسمه لامعا في هذا المجال، وله إلى جانب ذلك مؤلفات غير كتابه الذي ذكرناه، وله كتب حققها من كتب التراث ونشرها فكانت فيها فائدة كبرى لمحبي اللغة والتاريخ وللراغبين في العلوم الإسلامية بشكل عام.
هذا، وكانت للدكتور الأسد تجارب شعرية جميلة، وأنتج خلالها شعرا له قيمته في دنيا القصيد. ولم نكن نعرف عنه ذلك، ولم أسمع منه بيتا واحدا على الإطلاق مع طول صلتي به، والعجيب في الأمر أنني لم أعرف فيه موهبة الشعر إلا في يوم وفاته. فقد تذكرته في فجاءة الحزن عليه، والأسف لفقده أنني قد حصلت على كتاب ألفه عنه أحمد المصلح، ونشرته وزارة الثقافة الأردنية في سنة 2002م. وقد أمسكت بالكتاب على عجل، وأخذت في تصفحه ثم في قراءته لكي يفاجئني شعر الأسد. وكان شعرا قيّما متينا معبّرا.
كان حديث الأستاذ المصلح بمثابة إضاءة سريعة لمّح لقرائه فيها عن حياة أديبنا وعن إبداعه وعن السبب في عدم معرفة كثير من الناس بأنه يقول الشعر.
لقد كان هذا الرجل مُعرضا عن الحديث عن تجربته الإبداعية الشعرية. وكان يكرر قوله: إنني أتمنى أن أكون شاعرا، وهو في الواقع شاعر جيد الشعر. ولكن تواضعه يمنعه عن الحديث عن نفسه، وهو تواضع معروف عند العلماء والباحثين.
يقول مؤلف الكتاب: «وقد كشفت لنا القراءة عن أن الأسد شاعر مطبوع بتعبير النقاد القدماء. وأنه يجيد صنعته الشعرية بالمقدار نفسه». ثم يقول: «فقد كشفت لنا القراءة عن اطلاع الأسد الشاعر الواسع على مسيرة الشعر العربي قديمه وحديثه.
وعن حرصه على أن تتسم قصيدته بالبساطة والوضوح، وحرارة التواصل مع القارئ».
وما دام اهتمام د.ناصرالدين الأسد بالشعر قد انكشف لنا، فقد آن لنا أن نستمع إلى شعره بعد صمت. ومن ذلك مطلع قصيدة له قالها في سنة 1967م حين زار مدينة قرطبة الأندلسية ووجد فيها أعدادا كبيرة من الناس قد وفدوا إليها من أجل الاحتفال بعيد ديني. وكان هؤلاء الناس من مختلف الأجناس وهم يتحدثون لغات متعددة. وقد أثار ذلك في نفس صاحبنا الإحساس بافتقاد قومه، ولغته في ذلك المكان، فقال:
مالي أكتمُ لوعتي وأداري
وأهيم ملهوفا بغير قرار
وأغالب الشوق الحبيس تجلدا
أخشى على نفسي انكشاف ستاري
أفما يحق لي التوجّع والأسى
بلدي هنا، وأنا غريب الدار
لا الناس من أهلي ولا سيماؤهم
منهم ولا أوطارهم أوطاري
نقبت بينهم لعلي واجد
أحداً ينبئني عن الأخبار
فأجابني الصمت الحزين مُنبئاً
قومي غدوا أثراً من الآثار
وفي الكتاب مجموعة منوعة من القصائد والمقطعات، وهي متنوعة الأغراض. ويكفي للدلالة على عمق تجربته الشعرية أن نجد له قصيدة منها كتبها في سنة 1939م في عمان (الأردن).
لقد خسرنا أديبا عالما شاعرا، وصديقا له في نفوسنا مكانة مرموقة. وليس لنا إلا أن نقول رحمك الله يا أبا بشر فقد عشت موفور الكرامة عزيزا، وحصلت على علم غزير اغترف منه طلابك على مدى طويل، وسيبقى لهم ممثلا في كتبك.