بقلم: أحمد باقر
في المقالة السابقة استعرضنا مجموعة من الأخطاء التي ارتكبتها في السابق الحكومات ومجالس الامة، حيث تنافست على القرارات الشعبوية في مرحلة ارتفاع سعر النفط، فأُهملت الإصلاحات الاقتصادية وزادت الاختلالات الهيكلية وارتفعت المصروفات الجارية حتى جاوزت ٨٠% من مصروفات الميزانية التي أثقلت الهياكل الإدارية الجديدة والصرف الشعبوي وأقرت الباكيجات والكوادر وتفشى الهدر وتناقل الناس اخبار الفساد وزادت المصروفات في الميزانية من 4 مليارات عام 2000 الى 6 مليارات عام 2004 ثم الى 18 مليارا عام 2010 تشكل الرواتب 54% منها.
وعندما فاجأت ريح انخفاض النفط العاصفة البلاد طفق كل طرف بإلقاء اللوم على الآخرين، فالحكومة لامت مجالس الامة وخاصة نواب الجماعات السياسية والشعبويين واتهمتهم بإيقاف التنمية، اما الجماعات السياسية فقد لامت الحكومة التي غرقت في الفساد والهدر، بل نافستهم على القرارات الشعبوية، ولا شك ان جميعهم يتحمل اللوم بقدر مسؤوليته وسلطته، وعلى الشعب ان يقيم اعمال الحكومة والنواب والجماعات السياسية تقييما دقيقا اسوة بالشعوب الحية المتقدمة كي لا تتكرر الأخطاء التي قد تكون في المرة القادمة قاتلة لا رفاهية بعدها.
الآن الجميع يبحث عن حل بعد ان انخفض دخل البلاد من النفط من 32 مليار دينار عام 2014 الى 5 مليارات فقط متوقعة هذا العام.
وكالعادة لم تخلُ الحلول المطروحة اليوم من الاستغلال النفعي او السياسي، وكما يقال: «كل يجر النار صوب قرصه»، وفي اعتقادي ان على الحكومة باعتبارها المهيمن على مصالح العباد وفقا للدستور ان تقدم خطة متكاملة على أسس اقتصادية واجتماعية سليمة تثبت فيها المصداقية والقدوة الحسنة وتنفذ بالتدرج بحيث لا يتم الانتقال الى المرحلة الجديدة الا بعد نجاح المرحلة السابقة واعلان نتائجها للعامة، وكل ذلك يتم تسويقه عبر خطة اعلامية جادة تستخدم فيها جميع وسائل الاتصال التقليدية والحديثة ويقوم بها متخصصون في إيصال الرسائل الاعلامية للجماهير لكي يقتنع الشعب ويساهم في الإصلاح.
٭ أولا: الخطة الإعلامية: وهي ضرورية لبيان خطوات جميع الجهات الرسمية في سبيل الإصلاح مثل شرح الوزراء لقرارات إيقاف الهدر ومدى التوفير المتحقق من هذه القرارات ومبالغ تحصيل مديونيات الدولة ومتابعة قضايا الفساد داخل البلاد وخارجها، والرد على تساؤلات الجماهير، وكذلك الرد على الاشاعات المبثوثة عبر وسائل الاتصال مثل: أين ذهبت فوائض السنوات الماضية؟ وهل حقا ننفق سنويا هبات بالمليارات للخارج؟ وما حاجتنا لشراء أسلحة وطائرات عسكرية؟ ومن اي نوع ؟ وما حجم الرواتب والدعومات والإنشاءات في الميزانية؟ وغيرها.. ويجب ان تكون الرسائل الاعلامية مكررة ومقنعة وتستخدم فيها كل الوسائل الحديثة مثل الرسائل القصيرة والواتساب والانيميشن، وكذلك اللقاءات المباشرة للمعنيين، وخاصة وزير المالية مع الصحافيين لشرح خطوات الإصلاح ووقف الهدر وتبرير سائر الخطوات الحكومية مع نشر الإيرادات بالمبالغ والأرقام بشكل اسبوعي او شهري، ويجب ان يتبع ذلك قياس دقيق لتوجهات الرأي العام وقناعاته.
٭ ثانيا: المصداقية والقدوة الحسنة: وهي أمور معروفة شرعا وعقلا فلا يمكن ان يقبل الشعب على المساهمة الا اذا رأى في الحكومة والنواب قدوة حسنة وذات مصداقية في التقشف ومنع الهدر والحرص على المال العام وذلك عبر قرارات معلنة وتطبيق واضح للعيان لا تشوبه مظاهر التناقض مثل البذخ للوزراء واحتفالاتهم واستقبالاتهم وسفراتهم والمناقصات ذات القيم المتعاظمة، كما يجب اعلان هذه القرارات وتطبيقاتها في الخطة الإعلامية المذكورة.
٭ ثالثا: وقف الهدر: يتناول الشعب الكويتي في دواوينه امثلة مثيرة من هدر المال العام والتنفيع الذي لا يمكن تبريره مثل صرف مئات الملايين للعلاج في الخارج وصفقات مرهقة لا ضرورة لها، وتأجير مئات العقارات للهيئات والوزارات الدائمة التوسع وتعيين وافدين بمبالغ ومرتبات ضخمة واستبدال ارصفة جديدة بطابوق جديد آخر ومطار بكلفة خيالية وباكيجات مالية ضخمة للعسكريين والنفطيين وأخبار عن موظفين بمرتبات كبيرة لا يداومون، ومبالغ هائلة لحفلات ومسلسلات تافهة، ويتساءل الشعب: أليس من الاولى وقف الخرير من القربة قبل التفكير في ملئها من جيوب الناس؟
٭ رابعا: الفساد، الفساد: للأسف مازالت تقارير ديوان المحاسبة تزخر بأنماط من المخالفات المالية دون محاسبة، وأيضا لا تكاد تمر سنة دون اكتشاف سرقة او تربح قام به احد المسؤولين الذين عشعشوا لسنوات فوق صدر احدى المؤسسات الحكومية، وكذلك صور المنازل التي تصل الى اربعة او خمسة طوابق بالمخالفة للقوانين وعلى عينك يا تاجر ولا ننسى العمالة السائبة والشركات التي استولت على مدخرات الناس وتفشي الواسطة والمحسوبية والقبلية والطائفية والفئوية في التعيينات الكادرية والقيادية.
كل هذه الأمثلة وغيرها الكثير يتداوله الناس بشكل يومي ولا شك انه يضع الحكومة امام تحد لإصلاح حقيقي تواجه به الشعب في سبيل إقناعه بالمساهمة في العجز وخفض الدعوم وزيادة الرسوم.
٭ خامسا: العودة الى الحق فضيلة: الإصلاح في هيكلية الميزانية يقتضي إصلاح الأخطاء السابقة مثل موضوع الكوادر الذي ضاعف رواتب بعض الجهات وحرم غيرها وسبب زيادة هائلة في المصروفات ونقمة وتبرما عند من لم يحصل عليها وأيضا هروبا من القطاع الخاص الى العام على عكس الخطة التي صدرت بقانون، فلابد من وضع نظام جديد للرواتب افضل من البديل الاستراتيجي، وكذلك اعادة النظر في ميزات القياديين التي أضحت مجالا للتنافس غير المحمود بين الموظفين وتعديل اسلوب صرف المكافآت بحيث لا تصل إلا لمستحقيها.
وكذلك ضرورة اعادة النظر في بعض القوانين التي ادت الى مصروفات لم يكن لها اي داع مثل قانون التأمين الصحي على المتقاعدين الذي يكلف الدولة 100 مليون دينار الآن ويزداد سنويا رغم ان الدولة تكفل العلاج المجاني في مستشفيات وزارة الصحة وجار الآن بناء عدة مستشفيات جديدة، لذلك كان الواجب على المجلس والحكومة تحويل الوافدين الى القطاع الخاص وبالتدرج بدلا من تحويل المتقاعدين اسوة بما تم بالنسبة لتعليم أبناء الوافدين بعد التحرير حيث تم تحويلهم الى التعليم الخاص في خطوة شجاعة وبناءة اقتصاديا.
ومثل ذلك ينطبق على كثير من القوانين التي اقرت في السابق بنفس شعبوي.
٭ سادسا: مساهمة الوافدين: يقول البنك الدولي في احد تقاريره انه يجب مساهمة الوافدين في جزء من قيمة الخدمات التي تقدم لهم، وبناء على هذه القناعة تقدمت شخصيا في مجلس 1999 بقانون التأمين الصحي على الوافدين والذي يحصل اليوم مبلغ 120 مليونا فقط في الميزانية لأن الحكومة وضعت مبلغ 50 دينارا كقيمة لهذا التأمين بينما تقدر تكلفة المتقاعد الواحد حسب ميزانية التأمين الصحي للمتقاعدين بمبلغ 775 دينارا وهكذا يتبين ان الدولة مازالت تصرف الكثير لعلاج اكثر من ثلاثة ملايين وافد، ومثل هذا الأمر ينطبق على سائر الخدمات المكلفة للدولة كالكهرباء والطرق والأمن وغيرها، ورغم ان جميع خطط التنمية التي صدرت بقانون (وهي ثلاثة خطط)كان من الأهداف الرئيسية فيها هو تعديل التركيبة السكانية الا ان هذا الهدف فشل فشلا ذريعا ومازال القطاع الخاص يفضل تعيين الوافدين لأكثر من سبب أهمها انخفاض التكلفة بينما يعتبر القطاع العام بخيراته الكثيرة هو الجاذب الأساسي للكويتيين.
لذلك لابد من تحميل القطاع الخاص جزءا اكبر من تكلفة خدمات الوافدين الذين يجلبهم للعمل في البلاد.
واذا كان دعم الخدمات للأسرة الكويتية مقبولا الا انه ليس كذلك بالنسبة للاسر الوافدة والقطاع الخاص الذي يخل بالتركيبة السكانية ويرتب أعباء كبيرة على الخدمات.
٭ سابعا: الكبار أولا: تفرض جميع دول العالم رسوما او ضرائب على الشركات او على الدخول الكبيرة وحتى الشركات التي تملكها الكويت العاملة في أوروبا وأميركا تدفع ضريبة لا تقل عن 30% من الأرباح، وفي الكويت لا تدفع الشركات الا 1% من ارباحها للزكاة او للخدمات العامة حسب اختيارها، كما تدفع الشركات المسجلة في سوق الأوراق المالية فقط 2.5% من ارباحها الى صندوق دعم العمالة الوطنية في القطاع الخاص، اما نسبة 1% الاخرى التي تدفعها الشركات المسجلة في السوق الى مؤسسة الكويت للتقدم العلمي فهي ليست اجبارية ولم تصدر بقانون.
وهذه المبالغ البسيطة التي تدفعها هذه الشركات لا تليق بمستوى الخدمات التي تتمتع بها الشركات في البلاد ولا تليق بالدرجة المطلوبة منها للمساهمة في ميزانية الدولة، وكثيرا ما يحتج الصغار بضرورة مساهمة الكبار قبل مساهمتهم خاصة ان المادة 116 من الدستور نصت على ان الملكية ورأس المال حقوق فردية ذات وظيفة اجتماعية لذلك يجب اعادة النظر في قانون الزكاة وقانون دعم العمالة لزيادة هذه النسب من الأرباح وبشكل طفيف لا يؤدي الى إرهاق او إجراءات انكماشية، وكذلك لا بد من دراسة فرض نسبة على المرتبات الكبيرة في الدولة التي تزيد على ثلاثة آلاف دينار شهريا على سبيل المثال ويترك المجال لصاحبها ان يوجهها للزكاة او للخدمات العامة للدولة كما سبق.
٭ ثامنا: املاك الدولة وما ادراك ما املاك الدولة: ونعود للسؤال الذي يطرح من قبل كثير جدا من المواطنين وهو: هل يعقل ان تطالب الحكومة برفع الدعم او تقليله عن الخدمات الضرورية كالكهرباء والماء للأسرة الكويتية وتؤجر املاك الدولة بمبالغ مدعومة لأغراض تجارية يستفيد منها مواطنون لإعادة تأجيرها الى مواطنين آخرين او الى الدولة نفسها بمبالغ خيالية؟ ألم يذكر بلير في تقريره وجوب توفير أراضي الدولة وبأسعار السوق؟ لا شك ان تحصيل الدولة مبالغ مجزية من عقاراتها وأراضيها المؤجرة من اهم أسباب الإصلاح الاقتصادي ومن اهم أسباب تحفيز المواطن على المشاركة في هذا الإصلاح.
٭ تاسعا: خطوات مهمة على طريق الإصلاح الاقتصادي: في تقديري ان من اهم خطوات الإصلاح الاقتصادي هو تحرير الأراضي وتوفيرها للشباب وذلك لدفع الشباب الى العمل المنتج والمشاريع الصغيرة والمتوسطة بعيدا عن العمل الحكومي خاصة ان دخل الدولة في المستقبل لن يكون كافيا لتغطية الرواتب فلا بد من توفير الأراضي وبأعداد كافية لإنشاء المدارس والمستوصفات الخاصة ومحلات البيع بالتجزئة والمناطق الحرفية والصناعية والجامعات الخاصة، وغير ذلك من المشروعات الخاصة، فلا بد من توفير أراض للقطاع الخاص في جميع المناطق السكانية ودعمه ليتنافس مع القطاع الحكومي في الخدمة، كما لا بد من توفير الاراضي للصناعات النفطية وإلزام مؤسسة البترول بالاستثمار في الصناعة النفطية داخل البلاد بدلا من خارجها، وكذلك لا بد من تنفيذ قانون الخصخصة المعطل منذ اكثر من خمس سنوات وكذلك تنفيذ قانون حماية المنافسة المعطل منذ تسع سنوات وكذلك قانون حماية المستهلك الصادر منذ سنتين.
وفي هذا السياق لا بد ان نذكر الحكومة بسرعة تنفيذ القوانين التي صدرت منذ سنوات وتحمل في طياتها مشروعات اقتصادية مثل قانون المنافذ الحدودية والمستودعات الجمركية وقانون انشاء الشركات الإسكانية وشركات المخازن وشركات مواقف الشاحنات وإلزام هذه الشركات بتعيين النسب المقررة من الكويتيين.
٭ عاشرا: المواطن هو الرقم الصعب في المعادلة: في اعتقادي ان المواطن الكويتي لن يبخل على بلده ومستقبل ابنائه وشواهد الماضي والحاضر الدالة على ذلك اكثر من ان تحصى ولكن المواطن يريد ان يرى الإصلاح يقوم على قدم وساق وبالأدلة والأرقام، كما يريد ان يرى العدالة في الرواتب والمزايا وأملاك الدولة والمواطن يريد ان يساهم الجميع في ميزانية الدولة كل بقدر قدرته ووسع طاقته ويريد ان يرى برنامجا جادا لوقف الهدر والفساد والتنفيع، لذلك لا بد من تنفيذ برنامج الإصلاح على مراحل وكما ذكرت بحيث لا يتم الانتقال الى المرحلة التالية الا بعد نشر نتائج المرحلة السابقة وبالأرقام وبالصراحة وبالمواجهة التي يجب ان يقوم بها الوزراء مع الجمهور وفق خطة تسويقية امينة ودقيقة.
وعلى سبيل المثال هل يعقل ان تدفع الأسواق التجارية (المولات) فلسين فقط ثمنا لكيلوواط الكهرباء مثل السكن الخاص؟ أليس القطاع التجاري الذي يحقق ربحا أولى من السكن الخاص؟ لذلك وفي تقديري ارى انه يمكن البدء بالقطاع التجاري ثم الاستثماري ثم السكن الخاص وبالكبار في المناصب والمزايا والمرتبات وبالوافدين قبل صغار الموظفين، وبأملاك الدولة قبل جيوب الناس وخصوصياتهم وهكذا.
هذه خطة يسيرة في سبيل الإصلاح ولكن تنفيذها يحتاج الى عزيمة رجال دولة وليس مجرد موظفين، والله الموفق.