- الأمير الراحل عبدالله السالم ظل ذلك الرجل البسيط الذي لم يتلبسه هوس الثراء
- بعد الانتهاء من بناء الميناء نال الموظفون الكبار سيارات الكاديلاك أما البناءون الحقيقيون فزجاجة كوكاكولا
- السالمية «ذهبت إلى الشيطان» بعد أن امتدت إليها العمارات الحديثة وفقدت جمالها كقرية وادعة
- أصبحت الكويت من فرط ما فيها من حركة مدينة يسكنها الجان والجرافات تنسف الأسوار أمام المدينة الجديدة
زينب أبوسيدو
تعتبر كويت الخمسينيات معلما اساسيا من معالم التحول العالمي في القرن العشرين، هذا التحول الذي يدرس الآن على نطاق واسع بين مختلف باحثي الاقتصاد والسياسة وحوار «صِدام» الحضارات وصولا الى العولمة وتحول العالم الى قرية صغيرة.
وتنبع اهمية كويت الخمسينيات من انها تقدم تجربة فريدة على فورة حضارية عملاقة قامت بها الكويت بعد دخولها عالم الاقتصاد من البوابة النفطية وبدء تحولها الى بلد عالمي مهم.
ورغم كل ما تتناقله الذاكرة عن كويت الخمسينيات وكل ما كتب ودون وأرشف تظل هذه المرحلة من عمر الكويت تكتسب اهمية متجددة على الدوام ففي هذه المرحلة نهضت الكويت، وتحولت من الحياة البسيطة الى الحياة العصرية وانتقلت من بيوت الطين والصخور المرجانية الى العمارات والمنشآت والجسور والطرق والموانئ الحديثة.
لقد شهدت الخمسينيات اهم فترات التحول في الجزيرة العربية عموما وفي الكويت على وجه التحديد، يضاف الى كل ذلك التحول السياسي الذي اسس لوطن ديموقراطي عصري من خلال وضع دستور للبلاد وارساء قواعد الحياة الديموقراطية على اسس متينة.
ويمثل كتاب «كاديلاك وكوكاكولا» لمؤلفه المهندس السويسري جون هنري ميلر اضافة الى قيمته الفنية والتاريخية وثيقة ذات قيمة حيث يقدم ميلر من خلال يومياته رصدا دقيقا ليوميات التحول العملاق في بنية الكويت، وهو مهندس شارك في خمسينيات القرن الماضي ببناء نهضة الكويت الحديثة وعمل في انشاء ميناء الشويخ الذي انجزته الشركة الاميركية التي عمل معها ميلر خلال فترة قياسية، على مستوى العالم، في معايير ذلك الزمن.
والكتاب الرواية ببساطة يحكي قصة كويت الخمسينيات كما يراها مقيم اجنبي على ارض الكويت وللعنوان الذي اختاره المؤلف دلالة بليغة على رموز التعاطي مع مفردات الحياة المعاصرة في ذلك الوقت، وغزوها السريع للمدينة التقليدية اضافة الى ما يمثله العنوان من مفارقة تدل على التفاوت بين طبقات الناس ففي حفل التكريم الذي اقيم بعد انتهاء المشروع العملاق سلمت هدايا من سيارات الكاديلاك لموظفي الدرجة الاولى اما موظفو الدرجات الاخرى، وهم البناؤون الحقيقيون، وميلر واحد منهم، فقد اكتفي بتوزيع مشروب الكوكاكولا عليهم.
حين جاء هنري ميلر الى الكويت عام 1957، كان قد طاف في بلدان عديدة منها العراق حيث تعلم هناك اللغة العربية وتعرف على عادات العرب وثقافتهم، وبذلك كان لدى ميلر دراية الى حد ما بطبيعة الحياة والناس هنا في الكويت مما مكنه من رصد الحياة اليومية بعين متمرسة تستطيع ان تلمح المتغيرات وتتوقف عندها.
وظل كتاب هنري ميلر القيم في النسيان الى ان كشف عنه د.محمد عصام السبيعي، فقام بترجمته ترجمة أبدع فيها واستطاع ان يحافظ على متعة السرد وعلى الاسلوب الادبي الرفيع الذي كتب به.
بدأ العمل في الميناء الذي كانت ارضه موحشة ومليئة بالمستنقعات بمجموعة من العاملين ثم وصلت معدات الشركة من اميركا ومنها احد اكبر الحفارات في العالم ثم ما لبثت ان انتشرت سيارات النقل والشيفروليه الذهبية في شوارع الكويت، وكان العمال يسابقون الزمن ويعملون لفترات طويلة تحت الشمس الحارقة وهكذا ولجوا البيئة الكويتية القاسية من أوسع أبوابها ودون تمهيد.
ومن خلال تسليط الضوء على بعض العاملين معه يتحدث ميلر عن عرب الأهوار في العراق، من خلال أشقر وحسين العاملين العراقيين اللذين عملا معه في بناء الميناء، وهكذا يتطرق من خلالهما الى ثورة 1958 في العراق وأحداث الموصل التي عمل فيها قبل مجيئه الى الكويت ويقدم بذلك صورة موسعة الى حد ما عن ظروف الاقليم الذي تقع فيه الكويت.
يرصد ميلر في كتابه تحول قرية السالمية من قرية وادعة على ضفاف البحر الى مدينة تنهض فيها العمارات والأبنية الحديثة ويعتبرها «ذهبت الى الشيطان»، في اشارة الى تحولها السريع وانتقالها من حياة الهدوء والدعة الى الحياة الصاخبة المعاصرة.
ومن خلال رحلاته البحرية الى الجزر الكويتية والصحراء يقدم ميلر وصفا دقيقا لجزر الكويت ولاسيما فيلكا ويتحدث باستفاضة عن مناطق البر الكويتي حين كانت تدب فيها حياة البدو وبيوت الشعر والإبل وقطعان الغنم، ويعرج على أماكن الجهراء والوفرة والعبدلي وعريفجان ويبدو مفتونا أمام حياة البداوة في الكويت وللتداخل بين الماضي والحاضر، وللفورة القديمة التي أصرت ان تفجرها الكويت بعد ان قرر قادتها الدخول الى العصر الحديث من أوسع أبوابه، وبناء وطن معاصر رغم كل ما يحتاجه هذا البناء من بنية تحتية ومشاريع عملاقة.
ويبدع ميلر في تسليط الضوء على الكويت وقد تحولت الى بقعة الذهب في الجغرافيا وحلما للطامحين لحياة الثراء، فإضافة الى كونها أصبحت مطمحا للشركات العالمية من كل أصقاع الأرض تتنافس على عقود المشاريع العملاقة فيها فقد أصبحت مهوى أفئدة الناس في البلدان المجاورة لكسب لقمة العيش وتحسين أوضاعهم المادية وهكذا تحولت الكويت الى كرنڤال إنساني حقيقي فيها كل الجنسيات وكل الأعراق من الأوروبيين الى الأميركيين الى الفلبينيين والآسيويين الى العرب من كل أقطارهم والإيرانيين وغيرهم، ويتوقف ميلر عند التسامح العميق في الشخصية الكويتية وفي نظرة المجتمع الكويتي لكل هؤلاء الوافدين.
أمسلم أنت أم مسيحي، عربي أم فارسي، أم أوروبي أم هندي... من أنت وماذا تكون ومن أين أتيت؟ هذا لا يعني شيئا في الكويت، فمن يقيم في هذا البلد باستقامة وإخلاص فلن يلاحظ البتة أن هناك قانونا.
ويتوقف ميلر عند شخصية الأمير الراحل الشيخ عبدالله السالم الصباح الذي ظل «الرجل البسيط الذي لم يتلبسه هوس الثراء» ويعتبره الكاتب انه الأمير الذي لم يرتكب أخطاء كالتي وقع فيها غيره ويعتبره مثالا للشخصية الكويتية التي حافظت على هدوئها وأصالتها وبساطتها رغم تحول الكويت الى دولة الرفاه، ورغم نشوة النفط والذهب ونمو المدن الحديثة التي تشع بأضواء الإعلانات.
وحين انتهى بناء ميناء الشويخ وبحثت شركة ميلر على عقود جديدة في أماكن أخرى رفض ميلر الذهاب وأصرّ على البقاء في الكويت فعمل في بناء قصور الشيخ عبدالله المبارك، وكان قد أسس بيتا وحياة خاصة وأصدقاء.
الكتاب يضم 263 صفحة من القطع المتوسط، صب فيها الكاتب ذكرياته عن الكويت ما بين 1957 و 1960 بأسلوب روائي، اضافة الى ملحق للصور وترجمة د.محمد عصام السبيعي، وقد صدر عن دار هكسوس للإعلام والنشر.
الكتاب نصّ ألماني نادر
تعد مذكرات جون هنري ميلر من الأعمال القيمة والمجهولة للقارئ الكويتي، كما أنها من النصوص الألمانية النادرة التي تتناول الدولة والمجتمع في الكويت في مرحلة مبكرة من تاريخه المعاصر، فاليوميات تغطي عقد الخمسينيات حتى أوائل الستينيات، وهي بذلك فريدة من بين الكتابات الغربية حول الكويت. وقد اجتهد المهندس ميلر، الذي عمل في بناء ميناء الشويخ، في يومياته في وصف بداية مخاض عجلة التنمية، وشخص نفسية الشعب الكويتي في ذلك الحين تجاه الكثير مما مر عليه من تبدلات سياسية واجتماعية وتهديدات خارجية، كما أتى بأسلوب شائق على ذكر العديد من الشخصيات والأحداث التي وسمت تلك الفترة، ومنها: الشيخ عبدالله المبارك الصباح، عبداللطيف الثويني، محمد قبازرد، عبدالرحمن الغربللي ويعقوب الحمد، بناء ميناء الشويخ، سقوط طائرة في جنوب الخليج العربي، حالة زواج لم تتم في الكنيسة الكاثوليكية، مقبرة الأوروبيين في الكويت، قرية السالمية التي «ذهبت إلى الشيطان»، تهريب العمال الفرس عبر الخليج.