بغض النظر عن شؤون الرعاية الصحية، والهجرة، والإرهاب، وإصلاح الضرائب، وتعيينات المحكمة العليا، لم تتكبد وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون خسارتها في الانتخابات الرئاسية الأميركية إلا لسبب واحد هو أنها لم تتطرق لعلاج الاقتصاد المتعثر والطبقة المتوسطة المتضررة.
هذه الطبقة بالتحديد، خسرت وظائفها في ولايات اعتادت أن تصوت للديمقراطيين مثل أوهايو، ويسكنسون، وبينسلفانيا، ونورث كارولينا. المثير للسخرية هو أن الطبقة المتوسطة لم تخسر عملها إلا بسبب اتفاقيات التجارة الحرة التي ساندها ووقع عليها زوج وزيرة الخارجية، بيل كلينتون، الرئيس 42 للولايات المتحدة الأميركية.
وتعتبر التجارة الحرة واحدة من أقوى الأدوات في ترسانة الساسة الليبراليين. كما تعد التجارة الحرة مفهوما نظريا غير مثبت قائم على أساس الميزة النسبية وضعتها النخبة الاقتصادية التي لا تملك أي تجربة عملية.
المفهوم التحليلي البسيط والسخيف (كما سيظهر لاحقا) لفرضية بقاء العوامل الأخرى على حالها (ceteris paribus) هو الأداة المستخدمة للبرهنة على هذه النظرية غير المثبتة.
أما الميزة النسبية فهي قدرة أي بلد على إنتاج سلعة ما، على سبيل المثال كالنفط الخام، بتكلفة أقل من البلدان الأخرى، وبالتالي ستنتج فائضا من النفط الخام، وتبيع الفائض إلى بلد آخر مقابل الحصول على منتجها ذي الميزة النسبية مثل الأرز. كلا البلدان سيحصلان على أكبر قدر من الفائدة من مواردهما الشحيحة. ويتجذر مصدر الميزة النسبية بالأساس في بعض المصادر الطبيعية كالسكان، والتعليم، والمواد الخام مثل الحديد، والنفط، وما إلى ذلك.
وparibus ceteris هي عبارة لاتينية معناها «بقاء العوامل الأخرى على حالها». هذا المصطلح يستخدم في العلوم الاقتصادية عند تفسير أثر التغييرات في متغير واحد على متغير آخر دون الحاجة إلى القلق حيال التعامل مع إمكانية حدوث تغييرات أخرى.
على سبيل المثال، «عند زيادة سعر النفط سينتج عنه، مع بقاء العوامل الأخرى على حالها، بيع نفط أقل وتباطؤ نمو نشاط الاقتصاد». وهذا لا يأخذ بعين الاعتبار الأثر على زيادة السعر على المنتجات البديلة مثل الفحم، أو الغاز الطبيعي، أو أي بدائل طاقة أخرى، مثل الشمس، والرياح. ولأن كل شيء متصل، فإن بقاء العوامل الأخرى عل حالها يعتبر سخيفا لأنه يلغي حاجة الخبير الاقتصادي للتعامل مع الواقع.
ومنذ أن دخلت اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية (نافتا) حيز التنفيذ في عام 1992، أخذ الاقتصاد الأميركي يتجه نحو العولمة. بالإضافة إلى ذلك، في عام 1995 بدأت التجارة مع الصين تزداد. ولم يعد واجبا الاعتماد على تحاليل فرضية بقاء العوامل الأخرى ثابتة غير الواقعية للاقتصاديات النظرية لاختبار أثر التجارة الحرة.
وبدلا من ذلك، لدينا بيانات فعلية للتعامل معها، ونستطيع رؤية أن التجارة الحرة ليست حرة بل تحمل تكاليف اجتماعية واقتصادية خطيرة تبدو واضحة وضوح الشمس عند النظر في البيانات الحقيقية.
أولا: لا تترك الدول كافة الأشياء على حالها كما تفترض النخبة الاقتصادية في تحليلاتها، إذ يبين التاريخ الماضي للتجارة الحرة بوضوح أن الدول تحتكر عملاتها لمصلحتها الخاصة في التجارة، على سبيل المثال الصين. وبالتالي فإن افتراض أن كل الأشياء تبقى على حالها خاطئ.
ثانيا: تقول الفرضية في التجارة الحرة إن العمالة متحركة وتتجه حيث تكون الوظائف وتزداد الوظائف التي تتطلب مهارات عالية عندما تعيد الدولة توجيه مساعيها نحو قطاعات الاقتصاد القائمة على الميزة النسبية.
ماذا سيفعل عامل مصنع من الجيل الرابع يبلغ عمره 45 سنة، يحمل شهادة ثانوية، متزوج ولديه 3 أطفال وخبرة عملية تقارب 30 سنة، يتقاضى 35 دولارا في الساعة، عندما يخسر وظيفته تحت غطاء التجارة الحرة؟ هل ينسى التزاماته تجاه عائلته ويعود إلى الكلية لتحصيل شهادة علمية في الهندسة الكهربائية، ويذهب بعد ذلك للعمل في وادي السليكون، حيث تتوافر الوظائف الجديدة القائمة على المهارات العالية؟
هذا افتراض ساذج لسببين اثنين على الأقل، أولهما هو أن هناك روابط عائلية متوارثة من جيل لآخر، إضافة إلى علاقات أسرية حالية اندمجت بنمط حياة من الصعب كسره، وبالتالي فإن التنقل الجغرافي بحرية لا طائل منه.
ما الوظيفة التي ستتوافر وتكون مناسبة للمهارات التي يملكها الشخص الذي انتقل من مكان لآخر بحثا عن عمل؟ في كل الاحتمالات ستتوافر لديه وظيفة بقطاع خدمات يتقاضى منها نحو نصف راتبه الأساسي، وفي كثير من الحالات ستكون وظيفة دون مزايا. لهذا يمكن القول إن فرضية انتقال العمالة تحت شعار التجارة الحرة خاطئة أيضا.
ولقد أثبتت التجارة الحرة واتفاقية «نافتا» على وجه الخصوص أنهما كابوس للعائلات العاملة في أميركا، إذ إن أكثر من مليون وظيفة تعمل فيها الطبقة المتوسطة اختفت من ولاية أوهايو وحدها. وحتى لو ابتسم الحظ ووجد هؤلاء العمال وظائف جديدة فسيتقاضون أجورا اقل بنسبة 23% من متوسط ما كانوا يتقاضونه في وظيفتهم السابقة.
أما الموظف المسرح غير المحظوظ الذي لم يستطع إيجاد وظيفة فانه يعاني من حياة الفقر ويعتاش على مساعدات الحكومة. هذا سبب واحد لنقول إن الأطفال هم ضحايا التجارة الحرة، إذ انه للمرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية لن يكون وضعهم المالي شبيها بحال ذويهم.
هذا، وتبين تجربة اتفاقية نافتا كيف تتآكل حقوق العمال الأساسية ومصالح العائلات العاملة بموجب اتفاقيات التجارة الحرة التي لا تحمي العمالة، وتستخدم فيها الشركات التهديد لإعاقة أي مبادرة عمالية منظمة.
وأظهرت دراسة صادرة عن جامعة كورنيل أنه منذ دخول اتفاقية نافتا حيز التنفيذ، واجه ثلثا شركات الاتصالات والتصنيع مبادرات منظمة من العمالة، مهددين إياهم بنقل وظائفهم للخارج.
إذا خرجت العائلات العاملة من الطبقة الوسطى كطرف خاسر من التجارة الحرة، فمن الذي استفاد منها؟ الإجابة هي الغني، لأنه يملك رأس المال الذي زادت قيمته بعد أن باتت الشركات تنتج بأقل التكاليف.
ومن خلال اندماج الأسواق المحلية والإقليمية في سوق عالمية واحدة، ينخفض عدد الشركات الرائدة في السوق في أنحاء العالم، فتبدأ الشركات المتعددة الجنسيات بالاستحواذ على الشركات المحلية الأصغر أو «تضييق الخناق عليها». بهذا الأسلوب، تتركز الثروة بين بضعة شركات، وهذا بدوره يقوض قدرة العمالة المنظمة على التفاوض.
بالنسبة للعاطل عن العمل في البلد الأجنبي، سيستفيد عندما يجد وظيفة لم تكن موجودة بالأصل.
لسوء حظ المرشحة كلينتون فإن هؤلاء العاطلين ليسوا ناخبين في أميركا، ومع ذلك أجور وظائف العمال الأجانب أقل مما قد يتقاضونه في الولايات المتحدة، وسيزداد هذا «السباق نحو تخفيض الأجور» تحت غطاء التجارة الحرة مع استغلال الشركات للعمال في بلد واحد يقابلهم من هم أكثر يأسا في بلد آخر يطبق اتفاقية التجارة الحرة أيضا.
الدليل موجود لأن نحو 280 ألف وظيفة في العامين الماضيين تبخرت في المكسيك مع إغلاق أكثر من 350 شركة مكسيكية، حيث نقلت إنتاجها إلى هاييتي ودول أخرى عمالتها رخيصة. لهذا حتى لو وجدت مزايا للتجارة الحرة، فقد تكون قصيرة الأمد.
ولا يتعين علينا الاعتماد على نظرية اقتصادية ليبرالية غير مجربة مبنية على فرضية سخيفة تقول إن كل الأمور الأخرى تبقى على حالها، لدينا مجموعة من البيانات الفعلية إضافة إلى الكثير من دراسات الحالة التي تظهر بوضوح أن التجارة الحرة لا تتمتع بمزايا بعيدة الأمد لأي دولة فضلا عن أنها تقوم بسحق الطبقة المتوسطة في أميركا.
كما أعتاد أستاذي الحبيب في العلوم الاقتصادية في الكلية القول: «أسوأ ما يمكن أن يتعرض له خبير اقتصادي هو أن يصبح نموذجه أساسا لقرارات لأن كل الأخطاء ونقاط الضعف فيه ستصبح واضحة وضوح الشمس».
هذا ما حدث عند تطبيق نظرية التجارة الحرة. يظهر الدليل بوضوح أن أكبر الخاسرين بالتجارة الحرة هم الطبقة المتوسطة في أميركا ممن يرون وظائفهم تتلاشى أمام أعينهم لتفوز بها عمالة أرخص في بلدان أخرى. وكما قال أحد العمال السابقين في مصنع سيارات: «ما الفائدة إذا استطعت أن أشتري قميصا سعره 25 دولارا بمبلغ 4 دولارات في الوقت الذي لا أملك فيه وظيفة أجني من ورائها 4 دولارات؟».
هذه المجموعة المكونة من العمالة المسرحة لأسباب اقتصادية هي ببساطة المجموعة التي تناستها وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون في الانتخابات الأميركية. لقد ركزت كثيرا على القضايا الاجتماعية ونسيت المبدأ الأساسي، وهو أن كل الأمور تقريبا قائمة حول الاقتصاد.