بقلم: خالد عبدالرحمن المضاحكة
رئيس مركز اتجاهات للدراسات والبحوث
«وانني على ثقة كاملة، وبتوفيق من العلي القدير، واهتداء بمبادئ ديننا الحنيف وشريعته السمحة، وتمسكا بنهج ودأب من سبقنا، وبتصميم لا يقبل ترف الإخفاق والتراجع، سنحقق بإذنه تعالى مجد الكويت الغالية» بهذه الكلمات دشن الأمير الخامس عشر صاحب السمو الأمير الشيخ صباح الأحمد عهده في مسند الإمارة، وهذه العبارة جاءت في ختام كلمته الأولى لأعضاء السلطتين، عقب مبايعته بالإجماع، وهي ليست مجرد عهد من حاكم للمحكومين ولا خارطة طريق لعهد جديد فحسب، وإنما عكست معانيها سمات سموه الشخصية من الاقتداء بمبادئ الدين الاسلامي الحنيف وشريعته السمحة إلى الوفاء، وبنهج الاباء والأجداد، مرورا بشخصيته المثابرة الممزوجة بالحكمة التي لا تعرف سوى النجاح وترى الاخفاق والتراجع ترفا، وصولا إلى عشقه الأول الذي من اجله يثابر ويعمل منذ اكثر من نصف قرن، وهو الكويت، كما قال في كلمته نفسها إنها الكويت وأهل الكويت في التدليل على التزام شعبها وسلطاتها ومؤسساتها بوحدة الصف والكلمة.
رفيق الانجاز.. ومنذ أن دلف سموه إلى العمل العام لديه إصرار وتصميم على أن يكون صاحب البصمة والريادة، وعندما تولى مسند الإمارة قطع سموه على نفسه عهدا بعدم قبول الإخفاق والتراجع فثابر خلال السنوات الأربع على اخفاقات السلطتين، ودفعهما إلى طريق الانجاز بتوجيهات ومضامين سامية، وحققت سياسة النفس الطويل والحكمة في معالجة الأحداث وصول السلطتين إلى تفاهم حول خطة إنمائية منذ عام 1986 لتكون حجر الأساس في تحقيق الرغبة الأميرية بتحويل الكويت إلى مركز مالي وتجاري ليحقق سموه هدفه الاستراتيجي وهو المجد للكويت وفاء بعهده لشعبه، لذلك كان سموه حريصا على أن يختم كلمة تولي مسند الامارة متيمنا بقوله سبحانه وتعالى: »وافوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا».
هو الحكيم بامتياز.. المعتصم بالصبر والرؤية الثاقبة.. واجه الأزمات باقتدار، فخلال 4 سنوات شكلت 6 حكومات وحل مجلس الأمة 3 مرات، وتوقع الجميع أن يأخذ الأمير القرار الصعب بتعليق الدستور لضبط المسار، لكن غاب عن الجميع أن أمير الحكمة خط عهده بالحديث عن الالتزام بالشرعية الدستورية، ولم يخل خطاب ولا نطق سام من تأكيد على الدستور، بل ان كلمة سموه الأخيرة عندما بلغ الشحن الطائفي ذروة الخطر قطعت الطريق على المزايدين، وأكد سموه الالتزام بالدستور ليضيف إلى تاريخه إنجازا في هذا المضمار.
الشيخ صباح رجل يرى الكثيرون بعينيه، ويتحدث الكثيرون بلسانه، ويقرأ الكثيرون بأوراقه، بل ان بلدا بأكمله يتحدث حين يتحدث سموه. فالكويت في قلبه وخاطره ودمه، فباسمها ينطق، ومن أجلها يصمت وفي بهو تاريخها الحديث جعل له ركنا يتحدث عنه ويحكي تجربته الثرية. ففي تجهم الأحداث يشرق دائما بإطلالته فهو شيخ البسمة المتفائلة، فالحكم عنده لا يجوز أن يكون اكتئابا وكلوحا، بل انفتاحا ورحابة صدر، لذلك ينتظر منه مواطنوه وعارفوه في كل يوم مبادرة، وفي كل لحظة إبداعا.
وحسب الصحافي اللبناني ملحم كرم «حزين من دخل حرم معرفته متأخرا» فرجل بحجم سمو الشيخ صباح الأحمد صعب أن يتكرر. بدأ مسلكه السياسي الرفيع من القمم والأعالي ومن زمن ضاقت به الأساليب، ولأنه تربى في كنف حاكم جعل الديبلوماسية ممارسة أخلاقية وقيادة مسؤولة، لذلك قال عنه الديبلوماسيون الغربيون «هذا الرجل كتبت عليه مواجهة المواقف الصعبة باقتدار وقوة شخصية، فاستحق أن يكون ديبلوماسيا من الطراز الأول». صباح الأحمد، عرفته الديبلوماسية شيخا لها، فجمع في رحابة صدره رجال المشرق والمغرب العظام في القرن الماضي من جون كيندي وجنسون ونيكسون وصولا إلى فورد فكارتر وريغان وحتى بوش الأب وكلينتون إلى بوش الابن، ومن الشرق خروتشوف وبريجينيف، ومن أوروبا ديغول وبومبيدو وجيسكار ديستان، فهو رجل عاصر كل العهود ومختلف الازمات، ورافق كل وزراء الخارجية الكبار، من الحرب الباردة والوفاق الدولي الى انهيار المنظومة الشيوعية وعصر العولمة فقد مارس الديبلوماسية مع جون فوستر دالاس ووليام روجرز وهنري كيسنجر والكسندر هيغ وأندريه جروميكـــو وأليـــــــس كوسيجـــن وبريماكوف.
40 عاما قضاها سموه في رحاب السلك الديبلوماسي، فحمل حقيبة الخارجية لأول مرة في 21 يناير عام 1963، تنقل خلالها عبر ملايين الأميال وقطع مئات الآلاف من ساعات الطيران ليوقع اتفاقية في بلد وينجز مصالحة في بلد اخر، ويصنع لبلده مجدا في بلد ثالث، ويحقق انجازا في بلد رابع، حتى جال في غالبية دول العالم لخدمة بلده وعاصر خمسة امناء عامين للأمم المتحدة، والتقى مئات الرؤساء ووزراء الخارجية وشارك في الأحداث العربية والعالمية وساهم في صنعها.
جرب سموه المحاور العالمية وكان يحتاج اليها جميعا لحماية استقلال الكويت من طمع ضم عراقي مزمن، جرب سياسة المحاور العربية، فاختار سياسات تحفظ خيط اللقاء مع الجميع وتنبذ خيوط الفراق، فكانت الديبلوماسية الكويتية نموذجا في الجمع بين كل الأشقاء الكبار في عهود عبدالناصر وسعود بن عبدالعزيز وفيصل وكل نجوم محاور الستينيات والسبعينيات.
ولد عام 1929 وتربى في حضن والده الشيخ احمد الجابر، وهو الابن الرابع، وداخل بيت العائلة الحاكمة عرف كيف يقتحم الحياة بابتسامته الساحرة حتى في أحلك الظروف تراها في محياه حتى أصبحت من سماته الساحرة.
عام 1954، شهد خطواته الأولى في ساحة العمل العام بتعيينه عضوا في اللجنة التنفيذية العليا المكلفة بمهمة تنظيم دوائر الدولة الرئيسية، ومن يومها لم يهدأ. ولم تتوان حركته ولم تتقاعس همته، فهو ما عرف البطالة الحالمة، بل كان وسيستمر جهدا موصولا وقطبا بارزا في بناء الكويت الحديثة، مشاركا في الحدث وصانعا له على مدى 55 عاما حاضرا دائما عندما تستدعيه المصلحة الوطنية.
في مجلس الوزراء كان المحرك.. في مجلس الأمة هو المواجه والموجه، ينتهج لغة في غاية الصرامة، وغاية المرونة، لكنه لا يهادن ولا يجامل بحق الكويت ومصلحتها العليا، وفي مسند الإمارة هو الحكم بميزان العدل ومصلحة الكويت.
آمن بالنظام الديموقراطي، كما آمن بالصحافة ودورها، فهو قارئ ممتاز، يجيد التعاطي مع الكلمة قولا ومرونة وكتابة، وهو ما يفسر نجاحه الباهر كأول وزير اعلام دشن أبوابا ومنارات لحرية الكلمة.
عذب المفاكهة.. كثير الحكايات.. وامتزجت لديه العفوية بالحكمة، مضافا إليها الكثير من الحنكة والدهاء وذاكرة حادة لاقطة.
أب حنون لطيف المعشر قليل الانفعال اسعد لحظاته يقضيها مع أحفاده الذين يعيشون معه في منزله، وعندما يقوم برحلة إلى عشقه الأول وهوايته (البحر)، فهو مغرم بالحداق (صيد البحر) ويعتبره وصلة الحب بتراث الآباء والأجداد.
يبدأ يومه في الصباح الباكر برؤية أحفاده، ويقول عن ذلك «انما الحياة مرتان.. مرة حين يمنحنا الله حياتنا ومرة ثانية حين يمنحنا الله الأحفاد»، ومعهم يتصور نفسه وقد عاد إلى مرابع الطفولة، يواظب على قراءة القرآن الكريم، ويشاهد التلفاز، لاسيما البرامج العلمية في «ديسكفري»، ويطرب للموسيقى الخليجية.
سر رشاقته في نظام أكله المعتمد على السمك والخضروات المطبوخة على الطريقة الصينية، إضافة لعشقه لعادة المشي وانتهاز فرصة الراحة لممارسة رياضة الرحلات البحرية.
يرى الديموقراطية خيارا نهائيا وينتهج سياسة كسب الأصدقاء أو تحييدهم، فهو مع الإبقاء على شعرة معاوية مع الكل، وبهذه الطريقة جمع الشرق والغرب، والقوتين العظميين على مصالح مشتركة في الخليج، فطبع الكويت بسياسته محليا وخارجيا فهو النفس الطويل في التواصل مع الآخرين.