بقلم: يوسف عبدالرحمن
في السابع والعشرين من شهر رمضان الماضي رحل عن دنيانا الفانية إلى دار البقاء والخلد الشيخ المجاهد محمود عيد - رحمه الله - عن عمر يناهز الـ 93 عاما، والراحل كان داعية من طراز فريد، وإماما كبيرا لا يخشى في الله لومة لائم، كان يصدع بكلمة الحق مهما كانت «الفاتورة» أو التكلفة، والى جانب قوته في الحق ومقاومته للظلم والظالمين كان جياش العاطفة مرهف الحس عفيف اللسان نظيف اليد.
كان خطيبا مبدعا بكل المقاييس، حفظ القرآن الكريم منذ نعومة أظفاره واعتلى المنبر وهو ابن اثني عشر عاما حتى أصبح من أشهر فرسان المنابر، مسجد السلام بالاسكندرية كان الناس يفدون إليه من أنحاء مصر، وقد قال عنه العلامة د.يوسف القرضاوي «كان أسدا يزأر زئيرا أو موجا يهدر هديرا، كان يتدفق كأنه ماء ثجاج ويشرق كأنه سراج وهاج، لا يتكلف ولا يتنطع، يربي الناس على حب الله ورسوله ويدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة»، لم يهادن ولم يساوم ولم تلن له قناة ولم يتنازل عن مبادئه، فقد ظل طوال حياته ثابتا على أفكاره الإسلامية الوسطية مدافعا عنها في كل ميدان ومبشرا بها في كل محفل وديوان.
الراحل قدم إلى الكويت بدعوة من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية عام 1982 م، وعندما حط رحاله في كويت الخير والحرية وعلم أن الوزارة حجزت له في فندق الهيلتون للإقامة فيه رفض، وقال من الأولى أن توجه الأموال التي ستدفع مقابل إقامته في الفندق إلى أعمال البر والخير، ومنذ ذلك الحين وهو يمارس عمله الدعوى بالكويت بعد أن عرضت عليه الوزارة العمل بها إماما وواعظا، وقد ذكر د.خالد المذكور انه حينما كان الشيخ محمود يزور دول العالم الإسلامي للمشاركة في أعمال الدعوة والإشراف على بعض المشاريع الخيرية كان يرفض الإقامة في الفنادق، ويصر على الإقامة في المساجد، كما كان يرفض الحفاوة الزائدة به واستضافته على الموائد الفندقية مفضلا أن يأكل مثل عامة الناس.
الشيخ محمود عيد جال على معظم مساجد الكويت وهيئاتها ودواوينها ليلقي فيها الخطب والمواعظ والدروس ومن بين الهيئات والمؤسسات التي حرص على إلقاء خواطره فيها حتى قبيل مرضه الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية وبيت التمويل الكويتي.
ولا ينسى أهل الكويت للراحل مواقفه الرائدة من قضية الاحتلال العراقي الغاشم للكويت، فقد رفض في البداية مغادرة الكويت لحرصه على مشاركة أهلها في هذه المحنة القاسية، وخطب في مساجدها داعيا الله أن يهلك الطغاة وأن ينتقم منهم، وأمام إصرار عائلته وتلامذته على ضرورة مغادرته الكويت حتى لا يبطش به أتباع النظام الغازي وذلك في ظل إصراره على مهاجمته غير عابئ بالمصير الذي قد يلقاه، اضطر للخروج من ناحية العراق، وأثناء مروره بالمدن العراقية كان لايكف عن الدعاء على الطواغيت والظالمين والمغتصبين بمساجدها أثناء الصلوات في إشارة إلى النظام العراقي البائد، وبعد تحرير الكويت عاد مباشرة، واستأنف نشاطه الدعوي مجددا، وكان رحمه الله يحب الكويت حبا جما بل كان يعشقها ولا يترك مناسبة إلا ويذكر أهلها بالخير، وكان مبعث حبه أنها دولة عامرة بالمساجد ولا تعرف زوار الفجر الذين يقتحمون البيوت ليلا، وان الحرية مكفولة للجميع في إطار الدستور والقانون.
كان رحمه الله حريصا على التواصل مع الجميع، فقد شرفت بزيارته عام 1982م وهو العام نفسه الذي جاء فيه إلى الكويت، وكنت حينها أمينا للسر في جمعية المعلمين الكويتية، وتكريما له أهديته بروازا عليه سورة الفاتحة، وشاء الله عندما زرته وهو على فراش المرض وجدته وقد وضع البرواز في حجرة نومه، وأخبرتني ابنته الوفية المهندسة أسماء انه كان يعتز بهذه الهدية، فأكبرت فيه هذا الوفاء الذي كثيرا ما تحدث عنه في خطبه ودروسه.
كثيرا ما دعاني الراحل إلى مائدته الرمضانية السنوية، وكانت مائدة عامرة لها مذاق خاص، فمعظم المدعوين من الدعاة والعلماء والأئمة، وفي حضرة هذه الكوكبة من مختلف ألوان الطيف الإسلامي يزاحم غذاء العقول من المعارف والاقتباسات والاشراقات غذاء البطون، ويبدو المدعوون متلهفين إلى كلمات العلماء ولطائفهم ونوادرهم، ويا لها من لحظات محببة الى النفس تمر مسرعة، فهذا الداعية يتحدث عن احدث كتاب قرأه وهذا العالم يذكر موقفا نادرا وذاك يتندر، ومن حولنا الشيخ محمود عيد بحيويته وشبابه يرغبنا في أكل الطعام ويستذكر بعض المواقف الجالبة للبهجة والسعادة.
دروس الشيخ رحمه الله لم تخل من ذكر مناقب رجالات الكويت وعلمائها والثناء عليهم والإشادة بجهودهم، فكان دائما يعبر عن حبه للمرحوم عبدالعزيز المطوع والمرحوم عبدالله المطوع والعم الكريم محمد صالح الابراهيم، والعم يوسف الحجي والعم احمد بزيع الياسين والسيد يوسف الرفاعي وخالد بن سلطان العيسي والعم عبداللطيف الشايع والعم عبدالرزاق الجار الله وخالد بودي ود.خالد المذكور ود.عجيل النشمي والشيخ أحمد القطان والعم أحمد سعد الجاسر والعم حمود الرومي والأخ نادر النوري شفاه الله وعفاه، والأخ عيسى العيسى وعبدالعزيز السميط، والمستشار عثمان حسين والمرحوم د.سيد نوح، والمهندس طارق العيسي والأخ خالد بن سلطان ود.عبدالرحمن السميط وغيرهم، كما كان رحمه الله مبهورا بالعمل الخيري الكويتي دائم الاستشهاد بمنجزاته وأعماله التي وصلت إلى جميع أنحاء العالم.
توفي الراحل في توقيت مبارك فقد انتقل إلى رحمة الله يوم 27 من رمضان لعام 1430 هـ ودفن يوم الجمعة وتوافد محبوه وتلامذته ورواد دروسه وخطبه من جميع أنحاء الكويت إلى مقبرة الصليبخات لتوديع شيخهم وإمامهم داعين للشيخ بالرحمة والمغفرة والقبول.
تحية تقدير وامتنان وعرفان أبعث بها إلى ابنته الوفية أم أحمد لرعايتها الكريمة للشيخ وهو على فراش مرضه، وكان الراحل يعتبرها كل شيء في حياته فكثيرا ما همس في أذني انها أمي وأختي وابنتي وحبيبتي، ان هذا الرضا من الأب تجاه ابنته لم يكن الا نتاج تفان وتضحية من جانب الابنة التي لم تمل أو تكل من رعاية هذا الرجل العظيم، وتقديرا لها على هذا الدور المتميز كرمتها الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية في الإفطار الرمضاني الذي اعتاد أن ينظمه سنويا العم يوسف الحجي على نفقته الخاصة ويدعو إليه أهل البر والخير.
نسأل الله العظيم أن يرحم الله العلامة الشيخ محمود عيد وأن يسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، وأن يلهم آله وذويه وتلامذته الصبر والسلوان و(إنا لله وإنا إليه راجعون).