-
أكد أنه لا يصح الاجتهاد في نصوص قطعية الثبوت والدلالة أو فيما أجمعت عليه الأمة
أكد المدرس بقسم الفقه والأصول بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة الكويت د.خالد فالح العتيبي ان النصوص الشرعية تلزم المسلمين ابتداء بتطبيقها بناء على أنها صادرة عن قوة أسمى من البشر وتفكيرهم، وعلى أنها لا تخضع للوقف أو التعطيل أو الإلغاء عن طريق العقل البشري، لافتا إلى أن أهل العلم لم يتركوا العمل بنص شرعي إلا بمسوغ شرعي. وأضاف ان المصالح الموهومة والأهواء الزائفة في أذهان كثير من الناس تعارضها النصوص الشرعية معارضة قاطعة، فإذا ترك قوم حكما شرعيا يعارض مصالحهم، وترك آخرون حكما شرعيا آخر لا يناسب عصرهم ومصالحهم فيما يزعمون فإن شريعة الله تعالى في النهاية سوف تكون لا محالة أثرا من الآثار التي تحكى عمن سبق، مشيرا إلى أن مدعو وقف العمل بالنصوص الشرعية باسم الاجتهاد يريدون هدم الدين باجتهاد لا يعرفه المسلمون. «الأنباء» التقت العتيبي ليحدثها عن أهم محاور بحثه الشرعي بعنوان «دعوى وقف العمل بالنصوص الشرعية.. عرض ونقد» والذي قام بطباعته مجلس النشر العلمي بجامعة الكويت، وفيما يلي تفاصيل اللقاء:
في البداية حدثنا عن موضوع بحثكم وأهميته؟
البحث هو بعنوان «دعوى وقف العمل بالنصوص الشرعية.. عرض ونقد»، ويتناول عرضا لتلك الدعاوى المنادية بوقف العمل بالنصوص الشرعية، بلا ضابط فقهي أو مسوغ شرعي متى ما اقتضت المصلحة ذلك، أو إذا لم تسمح الظروف والأحوال بالتطبيق الحرفي للنصوص الشرعية، متخذين من بعض القضايا والأحداث التي أُثرت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه تكأة لهم على مزاعمهم من إيقاف للنصوص الشرعية، حتى وإن كانت تلك النصوص قطعية الثبوت والدلالة، كقضية المؤلفة قلوبهم في الزكاة، وعدم قطعه يد السارق في عام المجاعة، وعدم توزيعه للأرض المفتوحة عنوة على المقاتلين، ومنعه رضي الله عنه أيضا بعض الصحابة من التزوج بالكتابيات، حيث بينت في نقد تلك الدعاوى أن عمر رضي الله عنه في تلك المسائل كان متماشيا مع الشريعة وكلياتها ومقاصدها، ولم يكن اجتهاده وقفا للعمل بالنص الشرعي، بل حقيقة الأمر أنه كان إعمالا له.
لا يمكن تعطيل النص
هل يمكن وقف العمل بالنصوص الشرعية، وماذا يمكن أن يترتب على هذا القول؟
إن النصوص الشرعية تلزم المسلمين ابتداء بتطبيقها بناء على أنها صادرة عن قوة أسمى من البشر وتفكيرهم، وعلى أنها لا تخضع للوقف أو التعطيل أو الإلغاء عن طريق العقل البشري، وأما القول بوقف النصوص الشرعية إذا اقتضت المصلحة التي في أذهان البعض فقد يؤدي حقيقة إذا أخذ على إطلاقه كما يريدون يؤدي إلى نتيجة حتمية وهي إقصاء شريعة الله تعالى عن واقع الحياة، وذلك بسبب بسيط، وهو أن المصالح الموهومة والأهواء الزائفة في أذهان كثير من الناس تعارضها النصوص الشرعية معارضة قاطعة، فإذا ترك قوم حكما شرعيا يعارض مصالحهم، وترك آخرون حكما شرعيا آخر لا يناسب عصرهم ومصالحهم فيما يزعمون فإن شريعة الله تعالى في النهاية ستكون لا محالة أثرا من الآثار التي تحكى عمن سبق، ومن ثم قال الله تعالى (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون).
ومما لا ريب فيه أن أهل العلم ما تركوا نصا شرعيا إلا لنص شرعي آخر، أو بمعنى أدق إنهم ما تركوا نصا شرعيا إلا لمسوغ شرعي آخر قام الدليل عندهم على وجوب اتباعه، وقد يكونون مصيبين في ذلك أو مخطئين، ومع هذا فإننا نقطع بأنهم مأجورون معذورون فيما أصابوا أو أخطأوا فيه، وهذا واضح كل الوضوح لمن يطلع على سيرة الخلفاء أو فقه الأئمة الأربعة وغيرهم ممن لا يخرجون عن دائرة النصوص.
ليس في استعمالات العلماء
لكن هل أتى مصطلح الوقف بالنص في كتب الفقهاء؟
بالنظر في تراثنا الإسلامي وجدنا أن كلمة «الوقف» تطلق على معنيين، أو يراد بها شيئان، الأول هو الوقف بمعنى حبس عين ما على حكم ملك الواقف والتصدق بمنفعتها على جهة الخير.
وهذا الوقف سنة عند جمهور الفقهاء، وهو من التبرعات المندوبة، ولهذا الوقف أحكام خاصة تنظر في كتب الفقه.
والمعنى الثاني هو الوقف بمعنى عدم الحكم أو الإفتاء في مسألة ما من مسائل الشرع، وذلك لتعارض الأدلة في ذهن المجتهد، وتساويها وعدم ترجح بعضها على بعض، ومن ثم فلا يأتي فيها بشيء، ويمسك عن الكلام في تلك المسألة، ويعبر عن ذلك بقولهم «وتوقف فيها فلان».
وأما وقف العمل بالنص فلم أجده في استعمالات أهل العلم، لأنه ليس لأحد مهما كانت منزلته في العلم أن يوقف العمل بالنص الشرعي بعد ثبوته وعدم معارضته لما هو أقوى منه دلالة أو ثبوتا.
ضوابط الاجتهاد
إذن متى يجوز الاجتهاد أو ما الأمور التي يمكن الاجتهاد فيها؟
أولا لنعرّف الاجتهاد، الاجتهاد يعرفه العلماء بأنه «استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحسن من النفس العجز عن المزيد فيه»، ومن ثم فإن مجال الاجتهاد يكون في الأنواع التالية من النصوص، الأول قطعي الثبوت ظني الدلالة، والثاني ظني الثبوت قطعي الدلالة، والثالث ظني الثبوت ظني الدلالة، أما الاجتهاد في قطعي الثبوت قطعي الدلالة معا فهذا لا يصح الاجتهاد فيه أصلا، وكذلك لا يصح الاجتهاد في الأحكام المجمع عليها من الأمة أو المتفق عليها بين أهل العلم.
وبالتالي فإن الاجتهاد لا يلجأ إليه إلا في حالات معينة، أولا لإثبات النص الشرعي، وهذا يكون خاصة بسنة الآحاد، فإنها تثبت من طريق ظني، ومن ثم فإن المجتهد يبذل جهده ليتأكد من ثبوت النص ونسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وثانيا الاجتهاد في معرفة دلالة النص الشرعي على الحكم، وثالثا الاجتهاد فيما فيه نص ظني الثبوت ظني الدلالة معا، ورابعا الاجتهاد في المسائل التي لم يرد بشأنها نص أصلا، وخامسا النظر في تحقيق المناط، وسادسا وأخيرا تنقيح المناط، ومن هنا يتبين لنا أن مدعي وقف العمل بالنصوص الشرعية باسم الاجتهاد يريدون فتح «الاجتهاد» فيما لا يصلح الاجتهاد فيه.
شبهة ورد
لنأخذ مثالا على مزاعم البعض في وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه للنصوص الشرعية، فالبعض يرى أنه أوقف سهما للمؤلفة قلوبهم من الزكاة، فما تعليقكم على ذلك؟
لقد كان عمر رضي الله عنه أتقى وأورع وأحسن فهما وأعمق علما بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو أوسع أفقا ممن يعترض عليه وزعموا أنه أوقف العمل بالنصوص الشرعية بلا مسوغ شرعي، بل يقال إنه رضي الله عنه رأى مناط حق هؤلاء في الزكاة لم يعد متحققا في عهده، فالإسلام في عزة لا يحتاج معها إلى أن يخطب ودهم بالمال، فألغى إعطاءهم موافقة لنص الآية التي ربطت حق عطائهم بتآلف المســــــــلمين إياهم، ومثل هذا ليس فيه أدنى مساس بالحكم من حيث ذاته، وإنما هو ممارسة له على الوجه المشروع، كما يمارس المسلم حكم التيمم إباحة ومنعا حسب حالة العلة وجودا وعدما.
الاجتهاد ليس مرتعاً لكل أحد
هل من كلمة أخيرة توجز فيها ما تقدم ذكره من محاور قيمة للبحث؟
يتبين لنا في نهاية بحثنا بما لا يدع مجالا للشك ان تلك القضايا الفقهية التي زعم البعض أنه قد تم وقف العمل بالنصوص فيها، تبين لنا أنه لم يكن هناك وقف ولا تعطيل ولا نسخ ولا إلغاء كما زعموا، وإنما الأمر فيها كلها كان مبنيا على الاجتهاد المحض ومراعاة الكليات الشرعية والمصالح الضرورية والمقاصد الشرعية التي جاءت الشريعة بالعمل على حفظها ودرء أو تقليل ما يفسدها، كما تجدر الإشارة إلى بيان أن الاجتهاد في الشريعة له ضوابط محكمة، وللمجتهد شروط وضوابط، وليس الاجتهاد مرتعا مستباحا لكل أحد، وأن مجال الاجتهاد ليس في كل أحكام الشريعة، بل هناك من الأحكام ما هو معلوم بالضرورة، والمتفق عليه بحيث عد من الثوابت في تلك الشريعة، وأن المصحة في الشريعة لها ضوابط محكمة، وليس كل مصلحة يتوهمها أحد الناس تعد مصلحة في الشريعة، وإنما الأمر في هذا موكل إلى أهل العلم والاجتهاد.