صقلية والأندلس تعدان تاريخا إقليميا واحدا لتقاربهما سكانا وبيئة، ولأنهما الاستثناء الوحيد لقاعدة تقول: «حيثما بلغ الإسلام أرضا استقر بها الى الأبد»، وتعود صلة العرب بصقلية الى عهد معاوية بن أبي سفيان، فقد أرسل اليها معاوية بن خديج الكندي، فكان أول عربي غزاها، ثم لم تزل تغزى حتى فتحها الأغالبة. وتوقفت غزوات المسلمين البحرية بعد معاوية، وشغلت الدولة بحروب داخلية مدة كبيرة، ولما هدأت الأحوال فيها لم يكن غزوها البحري نشيطا، ثم أعاد العرب التفكير في فتح صقلية، بعد مضي 3 قرون عليها، وهي تحت حكم الدولة البيزنطية، وكانت سنين عجافا سادها الفقر الفكري، وترتب على سيادة الجهل وجمود الأذهان تفرق بين السكان، فكان كبار الملاك والتجار يتبادلون المكايد وينشطون في دس الدسائس وبث أسباب العداء، وكان من بين هؤلاء الكبار في المال والصغار في النفس رجل يدعى ايوفيموس وكان مغيظا من حاكم الجزيرة، فرأى الانتقام منه بان يستعين بالأمير الأغلبي الثالث، وهو زيادة الله، في غزو الجزيرة والقضاء على الحكم البيزنطي كله، وتردد الأمير الأغلبي في بادئ الأمر في غزو بلد مهادن لكن قاضي القضاة أسد بن الفرات شجعه على الفتح، مستدلا بالآية القرآنية: «فلا تهنوا وتدعوا الى السلم وأنتم الأعلون» فـــولاه ابن الأغلـــب قيادة جيش الفتح.
وكان ابن الفرات فقيها مالكيا طالت رحلته وتنقلاته في الشرق وكان أيضا محاربا شجاعا، ويظهر ان إخلاصه في الجهاد أضفى على الجيش كله روح التضحية وحب الاستشهاد، ووصل الجمع الى ميناء مزارا التي في جنوب جزيرة صقلية فألقى ابن الفرات خطبة في جنوده، حثهم فيها على التقوى وتحصيل العلوم، في شهر رمضان المبارك سنة 212 هجرية/ ديسمبر 827م، ولم يكن فتح هذه الجزيرة هينا ولا سريعا، مع ان الحملة كانت فيها سبعون سفينة عليها عشرة آلاف مقاتل، وسبعمائة فرس، ولكنها اعتمدت على الحصار، وشقت طريقها الى باليرمو فاتخذتها عاصمة، وقاعدة حربية توجه منها الحملات، وأخذت الجزيرة تسقط تدريجيا في أيديهم، ثم نهض المسلمون على نشر دين الله وبناء المساجد الوفيرة، والعمران والمعارف فازدهرت الجزيرة واطمأن أهلها.
وظلت راية الإسلام ومآذنه خفاقة في سماء صقلية، حتى تربع على عرشها حكام الدولة الكلبية فكان عهدهم بداية فوضى واضطراب، وتقسمت الجزيرة الصغيرة الى دويلات وأشتات وقبائل وأحزاب، وعادوا جميعا بعد الإسلام كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض، وكان بين رؤوسهم رجل يدعى ابن الثمنة ففعل فعلة ايوفيميوس وطلب تدخل النورمانديين، فوجدوا الجزيرة فريسة سهلة، فاستولوا عليها وضموها الى جنوب إيطاليا، وبذلك انتهى العهد الإسلامي في هذه الجزيرة بعد قرنين ونصف القرن أو ما يزيد على ذلك ببضعة عشر عاما.
دعوة إلى العلم
وهناك أمران جديران بملاحظة كل مؤرخ أو باحث في تاريخ صقلية أولهما: ان هذه الجزيرة فتحت باسم الدين الإسلامي، وأول وصية من أول قائد أسد بن الفرات كانت تدعو الى العلم وتحصيله، وظل حكامها من بعده، برغم اختلافهم وتنازعهم، يعملون على التوسع في بناء المساجد وتشجيع الدعوة الإسلامية بمعناها الواسع الكبير، فلم يكن ثمة عائق للحركة العلمية واستمرار الآداب والفنون في ازدهارها، ولم يملوا الإقامة في صقلية إلا في الأيام الأخيرة، وقبيل الغزو النورماندي، والأمر الثاني: ان المسلمين دخلوا هذه الجزيرة وهم في أوج ازدهارهم ورقيهم الحضاري، وكان المشارقة قد ترجموا من علوم الأمم الأخرى، ودرسوا وابتكروا شيئا كثيرا، فكانت البلاد الأوروبية التي دخلها المسلمون تتلقى ثمارا ناضجة وعلوما قد آتت أكلها في جوانب الفكر والحضارة، ولم تكن صقلية منقطعة عن الشرق، بل كانت رحلات الحج وطلب العلم ولقاء العلماء مما يغذي تيارات الثقافة فيها، فظل النشاط الثقافي والحضاري فيها مستمرا متجددا.
وعندما ورث النورمانديون هذه الحضارة لم يسعهم إلا الخضوع لها والاقتباس منها، وبرز بين حكامهم أنصار للثقافة العربية، وكان الإدريسي صاحب كتاب «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» يعيش في بلاط الإمبراطور روجر الثاني، ويحظى برعايته وتشجيعه، وقد سمى كتابه هذا باسم «الروجري» والإدريسي من أشهر الجغرافيين والرسامين للخرائط ولا ينافسه أحد في هذا الميدان خلال العصور الوسطى كلها، وقد صنع لروجر كرة سماوية وخريطة للدنيا على شكل كرة، وكلتاهما من الفضة.