عبدالعزيز المطيري
في الرابع والعشرين من الشهر الماضي، برزت على السطح حرب كلامية جديدة ضمن مسلسل الأزمات بين حركة التحرير الفلسطينية «فتح» وحركة المقاومة الإسلامية «حماس»، حين دعا الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الذي تنتهي ولايته الرئاسية في يناير المقبل، الى القيام بانتخابات رئاسية وتشريعية جديدة، في حال عدم قبول حماس بحوار المصالحة في نهاية هذا العام، ويأتي كلام عباس بعيد انتخابه رئيسا لدولة فلسطين من قبل المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية المسيطر عليها من قبل منظمة فتح، والواقع وكما هو معروف فإن منظمة التحرير الفلسطينية كانت تمثل السلطة التشريعية للشعب الفلسطيني، إلا انه بعد اتفاقية أوسلو فإن السلطة التشريعية التي كانت تتمثل بها انتقلت الى المجلس التشريعي المسيطر عليه حاليا من قبل حماس، وبالتالي فإن جميع قراراتها بعد انتخابات المجلس التشريعي الأول عام 1996 غير شرعية، بما في ذلك اختيار الرئيس محمود عباس رئيسا لدولة فلسطين، الدولة، التي في العرف الدولي والقانوني، غير موجودة بالأساس.
وتأتي هذه الحرب الكلامية بين الطرفين في ظل ما يحدث من تداخل في الصلاحيات والمهام داخل السلطة التنفيذية بالذات، بين منظمة فتح، متمثلة برئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وحركة حماس، متمثلة برئيس الوزراء اسماعيل هنية المنتخب من قبل المجلس التشريعي المسيطر عليه من قبل حركة حماس، وللحقيقة فإن هذه الإشكالية ـ تداخل الصلاحيات بين فتح وحماس ـ يرسخها في الواقع النظام الأساسي للسلطة الفلسطينية ـ والذي يعتبر دستور الكيان الفلسطيني المعمول به حاليا ـ وهذه الإشكالية لم تأت من فراغ، وانما لها قصة تستحق الرواية والاطلاع.
ففي نهاية تسعينيات القرن الماضي مورست ضغوطات أميركية واسرائيلية على الرئيس الراحل ياسر عرفات بأن يستحضر منصب رئيس مجلس الوزراء، يكون نابعا من المجلس التشريعي المنتخب، ايمانا من القادة في اسرائيل بأنه لا يمكن ان يتم تحقيق اي سلام مرتقب مع الكيانات السياسية المحيطة بإسرائيل، إلا مع شعوب تلك الكيانات، متمثلة بالمجالس البرلمانية المنتخبة والتي تمارس حقوقها التشريعية بنزاهة، حتي لا تقدم اسرائيل على مساومات وتنازلات لصالح تلك الكيانات السياسية، وبالتالي تأتي جماعات اخرى الى السلطة في تلك الكيانات عن طريق انقلاب، وتنسف الاتفاقيات الموقعة بينها واسرائيل، وكما هو معلوم فإن ما تساوم عليه اسرائيل هو مناطق عسكرية واستراتيجية بالدرجة الأولى قامت باحتلالها، ما يجعلها مترددة بهذا الخصوص.
وقد ترجمت هذه الضغوطات بوضوح ـ وبشكل مفتعل ـ عندما تم محاصرة مقر الرئيس الراحل من قبل المدرعات الاسرائيلية، ووضع عقبات لممارسة صلاحياته كرئيس، خاصة مع حصاره وقطع بعض وسائل الاتصال كل هذا أجبره على استحضار المنصب، وتم انتخاب محمود عباس اول رئيس وزراء للسلطة الفلسطينية من قبل المجلس التشريعي في عام 2003، إلا ان وجوده في المنصب لم يدم طويلا، وذلك لتداخل صلاحياته مع الرئيس، فاستقال من منصبه بعد قرابة السنة، احتجاجا على تدخل الرئيس في صلاحياته، فقد كان الرئيس عرفات اشد عنادا من ان يترك السلطة تنزلق من يديه بسهولة، فتعمد وضع صلاحيات رئيس الوزراء تتداخل مع صلاحياته، لأن نفوذه على حركة فتح المسيطرة على المجلس آنذاك اقوى من محمود عباس.
إلا انه بعد وفاة ياسر عرفات، وتولي محمود عباس رئاسة السلطة خلفا له في انتخابات 2005، فإن ما كان يتمناه الرئيس عباس في السابق لم يرغب به الآن، خاصة بعد سيطرة حركة حماس المعارضة على المجلس التشريعي وانتخابها اسماعيل هنية رئيسا للوزراء فحاول الرئيس عباس القيام بما فعله خلفه عرفات، القيام بعدة مناورات وتدخلات في منصب رئيس الوزراء ولكن كما هو معروف عن محمود عباس، فإن استخدامه المفرط للديبلوماسية لا يصور من شخصيته صفة الحزم كشخصية عرفات، خاصة مع شخصية قيادية كإسماعيل هنية، فلم يستطع النجاح في مناوراته، وفي محاولة منه لكي يثبت موقفه الحازم، أقال رئيس الوزراء إقالة يختلف بشرعيتها في الدستور وعين بدلا منه محمود فياض.
ومن ينظر الى النظام الأساسي للسلطة الفلسطينية (الدستور) فإنه يجد العديد من الثغرات، لعل ابرزها ما يرد في مقدمته، الى جانب صلاحيات الرئيس الواسعة في النظام الأساسي، والتي تتضارب مع صلاحيات رئيس مجلس الوزراء في النظام، وايضا الغموض والإبهام الذي يلتف حول بعض المواد، خاصة ما يتعلق بالسلطة القضائية والتي عادة ما تفصل في القضايا العالقة فيما بين السلطة التنفيذية عند الاختلاف.
كل هذا، يبين ان ما يزيد من نار الأزمة هو الدستور نفسه، الذي يفترض ان ينظم الأمور في البيت الفلسطيني، في ظل الاحتلال، ولذلك فهو بحاجة الى معالجة ضرورية، من العقلاء في الطرفين، لكي يتفرغوا من أنفسهم، ويحاولوا ان يطوروا من كيانهم الذي ليس من صالح اسرائيل بقاؤه، ولكن كما هو معروف عند البعض فإن اسرائيل متغلغلة في العمق السياسي الفلسطيني، ولذلك فإن أي تصعيد سياسي ووجود اي خلل في الدستور لا يخدم سوى الوجود الإسرائيلي، مقوضا مناطق السلطة الفلسطينية بأسلحته وعتاده ضد المدنيين بحجة المحافظة على أمن اسرائيل.