عبدالهادي الصالح
مثلما أبدع جده (في القرن التاسع عشر) الحاج علي النقي في صناعة الحلوى، وأول من أدخل الرهش بخلطته الكويتية الحالية كإبداع لم يكن من قبل كان مسجدهم في الدسمة «مسجد النقي» آية في العمران والتصميم الهندسي غير المعروف عن مساجد الكويت في أوائل الستينيات، وكنا صغارا نلعب داخله اثناء انشائه فكنا نرى بلكونة عجيبة نقفز منها الى الفناء الذي كان مغلقا من اي نوافذ الا من القبة وكانت هناك غرفة كبيرة في مدخله لم نكن نعلم ان من هذه المكتبة الديوانية سينطلق ابداع جديد للنقي عندما بدأت ثلة من الشباب يتلقون الوعي الإسلامي في الأخلاق والعقيدة والفقه على يد العلماء الذين جلبوهم بمباركة من آية الله العظمى المرحوم السيد محسن الحكيم (قدس سره) مثلما كانت لأول مرة تقام فيه دروس للنساء، كان ولايزال هؤلاء الفتية من الرجال والنساء لهم مواقعهم الثقافية والسياسية والاجتماعية والتبليغية حتى كانت بحق طفرة في تاريخ الشيعة السياسي الوطني ونقلة نوعية سميت في فترة سابقة بجماعة مسجد النقي، هكذا الابداع والاخلاص والعزيمة والتوكل على الباري عز وجل عندما يتجسد في شخص اسمه موسى عبدالحسين علي النقي، استلهم من اجداده تلك الصفات الطيبة يعاونه في ذلك شقيقه المرحوم الحاج عبدالوهاب النقي، لم يكن الدين عندهم مجرد صلاة تحتكر في الزوايا المنقطعة عن صراع الحياة، ولكن اعتركوا الحياة كانوا يجولون بحر الخليج يوميا لجلب شحنات الخضار والفواكه من العراق وايران عبر 42 بلم (أي السفينة الشراعية الصغيرة) ويطرحها الحاج موسى النقي في الكويت ليبيعها بالجملة على اصحاب الدكاكين في سوق الخضرة القديم حتى سموا آل النقي ونظراءهم بالطراريح.
ولم يفتر من عزيمة موسى النقي غرق مجموعة من عائلته في البحر اثناء عودتهم من العراق عبر شط العرب، ربما تلقى وتدرب على هذه العزيمة منذ صغره عندما كان عمره 14سنة فعاصر حرب الجهراء وشارك في تجمعات ليالي رمضان في الحسينية الخزعلية القديمة (بعد انتهاء بنائها سنة 1915) التي انطلقت في بناء السور من جهتي دروازة البريعصي (الشعب) وسور دسمان بتنظيم من المرحوم العالم الديني السيد مهدي القزويني وبالتنسيق مع الأمير الراحل الشيخ احمد الجابر، غفر الله له.
كان ذكاء الحاج موسى النقي ونظرته البعيدة والذي صقله التزامه بالتعليم في مدرسة المرحوم ملا جمعة بن باقر في فريج معرفي بالقرب من مسقف الرومي دافعا ليتوسع في أنواع من التجارة الحديثة فيما بعد وبمشاركة من العوائل المعروفة بالتجارة كآل الوزان في اقامة مصانع للطابوق والكاشي والستائر المعدنية والليف واقامة معرض كبير للأواني ومستلزمات المطابخ، اضافة الى التجارة في المواد الغذائية المعلبة، كان بوعبدالعزيز (الحاج موسى النقي) منفتحا على الجميع كحال الكويتيين قديما لا يعيشون تعقيدات الفروقات الفئوية، وكان مجلسه مجلس ثقافة وأنس وتاريخ وقصص ومواعظ، هكذا عاشرته في العطل الصيفية عندما كنا نتواجد في ديوانية مسجد النقي انتظارا لصلاة الظهر فكان يأتي مبكرا قبل الأذان ليفتح لنا قلبه وعقله بلسانه العذب، هكذا كانت تربيته عندما استلهم من والده المرحوم الحاج عبدالحسين النقي الذي كان دكانه عبارة كذلك عن ديوانية يستقبل فيها أصدقاءه امثال المرحومين الشيخ سالم الحمود الصباح وعبدالوهاب حسين بن علي واحمد النصف وعلي الشمري، وكان يتعامل تجاريا حتى مع اليهود الكويتيين الذين وثقوا في نظافة وجودة بضاعته فكانوا يشترون منه زيت السمسم (حل السمسم) حيث كانوا لا يرغبون في استخدام الدهن العداني.
وكذلك كان آل النقي يبيعون لهم فرخ الحمام حيث كان اليهود يأكلونه قبل نمو الريش على جسمه وكان للحاج موسى 40 صندوقا لتربية الحمام لبيع افراخها على اليهود.
الحاج موسى عبدالحسين علي النقي (1906-2008) حياة حافلة وذاكرة من ذاكرة الكويت، لكن للأسف الشديد لم يكن احد يلتفت الى هذه الشخصيات العريقة التي تختزن ابداع الكويتيين وكفاحهم السياسي ونشاطاتهم التجارية وانجازاتهم الوطنية، كان ممن يسمون بالمؤرخين الكويتيين يتجاوزون مثل هذه الشخصيات ولا اعرف لماذا؟ ربما العيب في مثل الحاج موسى النقي الذي لا يكترث بالأضواء الاجتماعية فكان يعمل ويُعلّم بصمت حتى في أيامه الأخيرة عندما ناهز عمره الـ 103 سنوات التزم منزله ولم يعد يخرج منه حتى لا يتكلف الناس بالافساح له في مجالسهم حتى مكانه في مسجد النقي خلف الامام مباشرة تركه لولده عيسى (أبوأحمد) في رسالته الأخيرة له بأن يكمل المسير بعد ان كان ولده الأكبر بوسعود (المرحوم عبدالعزيز) قد انتقل الى بارئه تعالى في المشعر الحرام اثناء الحج قبل سنوات، فلله دركم كم انتم أنقياء وما أخطأ من وصفكم بالنقي، رحمك الله، فأنت فعلا موسى النقي. الفاتحة.
شكرا للأستاذ محمد عبدالهادي جمال الذي زودنا بلقطات من حياته من خلال اجرائه سابقا مقابلة مع المرحوم النقي.