استبدلت صور هدام العراق وشعاراته الكاذبة بآيات قرآنية وأحاديث شريفة على حوائط المدينة المقدسة وأغلبها تحث على الصلاة وتهدد تاركيها اضافة الى التذكير بالعلماء والمجاهدين الذين لهم بصمات واضحة في النضال والاجتهاد الفقهي وضد الظلم ولتكريس الفضيلة والعدالة، هكذا استقبلتنا «النجف الأشرف» حيث مرقد أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وحيث الحوزة الدينية الأقدم بمرجعياتها الدينية الكبيرة كالسيد السيستاني، حفظه الله، تعالى الذي يستقبل زائريه عامة ما بين الساعة 10 و12 ظهرا بعد حاجز أمني مشدد، لقد كان الهاجس الأمني المؤرق الأكبر لمن يشرع في زيارة العراق ولكن ما لمسناه مباشرة في مدينتي النجف وكربلاء ومحلة الكاظمية في بغداد من سيطرات أمنية متعددة تراقب وتفتش شخصيا وعبر أجهزة السونار اليدوية، يبعث على الطمأنينة، فالزائر الى العتبات المقدسة يمر بحوالي 6 نقاط تفتيش علاوة على منع دخول الكاميرات والهواتف الى الحضرة الشريفة.
كما ان المواد الغذائية والفنادق ذات الاربعة نجوم (على الاقل) متوافرة، كما ان الكهرباء متواصلة واذا انقطعت برهة من الدقائق فإن المولدات سرعان ما تعيدها، والشعب العراقي في هذه الاماكن وجدناه ودودا جدا معنا، فأحدهم يسأل «هل أنت كويتي؟!»، «نعم أنا كويتي!»، «والله يابا انت تاج على راسي هلا بيكم»، «أنا خادمكم»، مما يوحي بأن الشعب تواق الى اعادة لحمة الجيرة والاخوة، ويلعن السياسيين بقيادة صدام المقبور والذين حاولوا تدمير هذه المشاعر الطيبة! ازقة وشوارع هذه المدن المقدسة لم تتغير عموما ولم تصلها يد العمران الحديثة، ولولا بريق الذهب الوهاج الذي يكسو منائر وقباب ومداخل هذه العتبات المقدسة، لبدت المباني كئيبة تئن من اهمال النظام البعثي البائد، الاسعار معقولة، ولك ان تفاخر بانك اشتريت عصيرا معلبا بألف دينار معزة وغلاوة لزوجتك! او تصطحب معك الى ريوق بوفيه الفندق شيئا من القيمر الطبيعي ذي النكهة المميزة مع شيء من الجبن الحلو (كما يسمونه هناك وهو ماصخ لكن تأكل منه ولا تشبع!) ولك ان تتجول بأسواق الكتب وتبتاع بأشهر كتب التراث المعتبرة والمؤلفات الحديثة بثمن زهيد، واذا اعياك المشي فلا بأس باستكانة من الشاي العراقي (السنجيل ـ الثقيل) المنعش، ولولا التحفظ الصحي ـ الذي لا ندري مدى مصداقيته ـ لتزودنا بكميات من الطرشي المحشو والمشكل وبأنواع من البخصم.. الخ، هذه بعض البضائع التي غالبا ما تدور في خلد الزائر الى العراق حتى يخشى ان تشوش على صفاء نيته لزيارة اولياء الله وعترة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فما ان تمس قدماك العتبة المقدسة للإمام الحسين عليه السلام وأخيه قمر بني هاشم العباس عليه السلام في كربلاء حتى تشعر بعبق واقعة الطف في العاشر من محرم 61 هـ فكربلاء هي ارضها فمازالت مواقع خيام آل النبي مشهرة وحتى اماكن قتلهم وقبور الشهداء ومحل قطع كفي العباس عليه السلام، اضافة الى الناصر الأمين الحر بن يزيد الرياحي، وهكذا في الكاظمية حيث مرقدا الإمامين موسى بن جعفر الكاظم وحفيده الإمام محمد بن علي الجواد، وكان مقررا ان نزور سامراء حيث مرقدا الامامين علي بن محمد الهادي، والحسن العسكري، ولكن يبدو ان اعمال تجديد البناء بعد التفجير الآثم حال دون ذلك، وعندما تعود الى النجف فلا يفوت الزائر ان يدخل الى مسجد الكوفة حيث مركز ادارة الحكومة الاسلامية في عهد الامام علي بن ابي طالب، وبالقرب منه مرقد الصحابي الجليل ميثم التمار الذي كان صوت الحق وبسببه صلب على النخلة قتيلا، وهكذا تتسارع الساعات الثمينة في هذه الزيارة القصيرة بينما تتزاحم الافكار والذكريات الخالدة التي تحاكي واقعنا اليوم بكل آماله وآلامه.
[email protected]