في ليل السابع عشر من أبريل لعام 2014 انطفأ سراج كبير في الكويت، وخفت نور العمل الخيري في الكويت، إنه الشيخ الداعية والمربي نادر النوري، وصدق العم يوسف الحجي عندما قال فيه «إنه نادر كاسمه» لا أقول مبالغا إن الشيخ نادر النوري، نوع من الدعاة فريد، ونوع من المعادن النفيس، ونوع من رواد العمل الخيري النادر، لقد عاشرته منذ كنت في السابعة عشرة من عمري عام 1973، ورأيت فيه منذ ذلك الزمان إنسانا نادرا، وبالرغم من تطابق عمرنا، إلا أنه كان يكبرني بمراحل، يكبرني بعلمه، وثقافته، وسابقته بالدعوة، وملكاته وقدراته، وفنونه في كسب الشباب ومعرفة أسهل الطرق إلى قلوبهم، لقد تعلمت على يديه الكثير مما لم أجده في الكتب والموسوعات، تعلمت على يديه معاني الإخوة الحقيقية، فعندما قدمت إلى الكويت من بريطانيا في الإجازة الصيفية أثناء دراستي هناك عام 1975 سألني ان كانت لي سيارة، فأجبته بالنفي، فأعطاني مفتاح سيارته الجديدة التي لم يمض على شرائها من الوكالة شهور قليلة، فرفضت بشدة، ولكنه أصر بشدة، وقال عبارته التي لم أنساها منذ ذلك الزمان «لا خير فينا إذا ندعي الاخوة ولا نطبقها» فأخذت السيارة كارها لإرضائه، وفوجئت بأنه يقود سيارة نوع بيجو قديمة مقعد السائق مكسور فيها، فلم احتمل ذلك فأرجعت سيارته إليه.
تعلمت منه طرق البحث العلمي، فكنت كلما سألته عن مسألة علمية في الحديث أو العقيدة، أو القرآن الكريم أو الدعوة ارجعني إلى المراجع لأقرأ بنفسي، وأستخرج الإجابة، ولكي يحبب إلي القراءة بصورة غير مباشرة.
فتعلمت منه حب القراءة وأنواع الكتب في كل المجالات، علمني طرق البحث عن الحديث الصحيح من السقيم، وعلمني تراجم أشهر المؤلفين في كل مجال، وعلمني فهم المراجع في كل فن. تعلمت منه أن اصل العلوم هو الإيمان، والقاعدة الإيمانية، فلا بد من التركيز في تأسيس الثقافة على الناحية العقائدية الإيمانية، لذلك حبب إلي قراءة الكتب الإيمانية، وخاصة كتب الإمام ابن القيم، وكتب الإمام ابن الجوزي، وكتب التفسير، وشروح الحديث.
تعلمت منه حب العمل الخيري، فأخذني معه في بعض رحلاته الخيرية إلى الهند، وعرفني على كبار العلماء فيها، وكذلك الجامعات الإسلامية فيها، ورافقته إلى كوسوفو وعرفني على العلماء فيها، وكانت من اجمل أيام حياتي، ورأيت بأم عيني منزلته الكبيرة في تلك الديار، والترحيب الكبير من علماء الهند وكوسوفو إجلالا لعلمه وعمله الخيري في تلك الديار.
تعلمت منه الاعتدال في دعوة الآخرين، والاعتدال في الآراء، والاعتدال بأخذ هذا الدين، تعلمت منه حب العبادة، فكان يمر علي ليأخذني لصلاة القيام في رمضان في بداية السبعينيات، هذا غيض من فيض ما تعلمت على يديه، وكان رحمه الله حريصا على رؤيتي في شهوره الأخيرة، وكان يهاتفني في أيامه الأخيرة لا لشيء سوى رغبته في سماع صوتي، فإذا ما سألته ماذا تأمر يا شيخ، قال: لا شيء سوى السلام عليك، كان رحمه الله قليل الكلام، كثير الأفعال، ولكنه إذا تحدث أخذ بألباب الحاضرين، لغزارة علمه واطلاعه وثقافته، لقد استمعت إليه وهو يلقي محاضرة على طلبة جامعة الفلاح في مدينة اعظم كره في شمال الهند، فأبهرهم، بعرض تاريخ الهند، وتاريخ المسلمين فيها، وجهود علماء الإسلام في الهند في المجالات العلمية، واستمعت إليه وهو يلقي محاضرة عامة في اساتذة وطلبة جامعة العلماء في لكناو في الهند، فأبهر الجميع بغزير علمه، كما كنت معه في محاضرته في ائمة وعلماء كوسوفو، عن الاعتدال والوسطية، والتي كانت السمة الغالبة في شخصيته.
لقد تأثر رحمه الله كثيرا بمسيرة عمه الشيخ عبدالله النوري احد رواد الكويتيين القدامى، قبل قوانين الجمعيات الخيرية، والذي كان أمة لوحده، حيث كان في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن السابق يجمع الخيرات والصدقات والزكوات من اهل الكويت، ويذهب بها إلى دول شرق آسيا، إندونيسيا، وماليزيا، وغيرها لتنفيذ الممشاريع الخيرية المتعددة كالمساجد والآبار ودور رعاية الأيتام، والمدارس العامة، وبعد وفاته ووفاء لدوره قامت أسرة النوري الكرام بتأسيس جمعية خيرية باسمه وهي جمعية الشيخ عبدالله النوري الخيرية، قادها الشيخ نادر النوري باقتدار لإتمام مسيرة عمه البارزة. لقد كان رحمه الله، سمحا سهلا، رقيقا، محبا لعمل الخير، وكان يسلم على الصغير والكبير، والغني والفقير، بل كان حريصا على تطييب خاطر الفقير، وخاصة الضعفاء منهم، كالخدم وفراشي المساجد، فكان يباسطهم، ويمازحهم، وينصحهم.
اتصل بي قبل شهر من وفاته وكنت خارج الديار، فتعجبت من مكالمته لعلمي بما يمر به من المرض، ولما رددت عليه، وسألته عما يريد، قال: لا شيء سوى السلام عليك.
شيخنا الحبيب نادر النوري، لقد أخذت قلوبنا بوفاتك لامتلائها بمحبتك وصدق ابن سهل الأندلسي عندما قال:
حسبت يوم الوداع أن معي
قلبي ولم أدر انه سرقا
أنا الذي رام من أحبته
حظاً بلقياهم فما رزقا
شيخنا الحبيب نادر النوري، في صباح هذا اليوم سيفقدك اليتامى في العالم الإسلامي، وسيفقدك طلبة العلم في مدارس وجامعات العالم الإسلامي، وسيفقدك العلماء هناك، وسيفقدك الدعاة والعاملون في الحقل الدعوي، وحق لهم الترويح عن انفسهم بالبكاء كما قال ابوالعتاهية:
أبيت مسهدا قلقا وسادي
أروّح بالدموع عن الفؤاد
فراقك كان آخر عهد نومي
وأول عهد عيني بالسهاد
إذا كان للدول معالم تاريخية وحضارية وثقافية تفاخر بها بين العالم، فلا شك أن الشيخ نادر النوري أحد أبرز معالم العمل الخيري في الكويت الذي يفاخر فيه ليس كل كويتي بل كل مسلم في هذه الدنيا.
لقد غادرتنا هذه الدار، ولكنك غرست أعمدة من بعدك، فنم قرير العين، فالعمل الذي أسسته سيحمله رجالا من بعدك، يرفعون الراية التي رفعتها من قبل، ويكفيك فخرا أن الجميع يذكرك بالخير، فهنيئا لك ما قدمت.
ونسأل الله تعالى أن يصبرنا على فراقك، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وما نقول إلا ما قاله رسولنا صلى الله عليه وسلم: «إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا لفراقك يا أبا عبدالله لمحزونون».