قالوا قديما «العدل أساس الحكم» وهي حكمة عظيمة صاغها حكيم في زمانه، فمن منا اليوم يتفحص مدلولها؟
هذه الاستهلالة السريعة سببها أنني اعتبر ممن خدم بيت الزكاة أكثر من ربع قرن (25 عاما أو يزيد) تبارك ربنا وحمانا، واعتقد ان العدل والإنصاف في هذه المؤسسة يصل إلى 80% أو أكثر، نعم والأدلة على ذلك كثيرة منها حق التقاضي السهل والسريع على أكبر شخص بالمؤسسة، ويمكن ان يقول قائل: كل مؤسسات الدولة حق التقاضي فيها مكفول؟ أقول نعم لكن بعض تلك المؤسسات تقاضي المسؤول ثم عليك تحمل تبعات هذا التقاضي، أما في بيت الزكاة فأقولها بحق انك ترفع القضية وتكسبها وتتسلم التعويض المناسب وتأخذ منصبك بكل حق كما كفله القانون ثم ترجع إلى مكتبك ولا يكون لك مع القيادة تلك التبعات السلبية المتوقعة، كما سمعناها أو قرأناها من تجميد أو تهميش أو غيرها من أساليب.
ومثال آخر أفضل وأقوى وأعمق دلالة، حيث دارت أيام بيت الزكاة وتوافر منصب وكيل وزارة مساعد وفي الغالب يتنافس على هذا الموقع كل من يحق له ذلك من مديري إدارات أو مكاتب وبطبيعة الحال الكل يرفع رأسه مطلا شامخا بحيث يقول للإدارة العليا ومن ثم الوزير «انني انا لها» ثم تتوالى التوصيات هنا وهناك والكل يبحث عن نائب أو متنفذ أو ذي مصلحة عند شخصيات معتمدة لدى الحكومة للتعيين بهذا المنصب، ثم يعتلي حصان ـ أو قل عرش ـ الوكالة احد مديري الإدارات.
كل هذا يا سادة يا كرام لم يكن في بيت الزكاة إلا توصيات هنا وهناك، فماذا فعل بيت الزكاة لشغل هذا المنصب الجديد؟ وهنا مربط الفرس ان الإدارة العليا قامت حتى ترفع نسبة الشفافية بتقديم طلب إلى الوزير لكي يشكل لجنة حيادية من مجلس الإدارة لمقابلة كل من يرغب في شغل هذا المنصب، وبالفعل تشكلت اللجنة وكانت ثلاثية، بل ورباعية وانتظر جميع المديرين اليوم الموعود وتمتعت اللجنة بكامل الحرية، تسأل ما ترى وتسمع ما تحب، وعند السؤال يكرم المرء أو يهان وبالفعل كانت تجربة اللجنة في المقابلات جميلة وراقية والأسئلة بعضها هجومي وبعضها سهل وبعضها به دهاء الكبار وبعضها لا ينبغي سؤاله!
المهم تمت المقابلات مع كل المديرين القديم منهم والحديث القبلي وغير القبلي، الحضري والكندري، وتوالت أيام الانتظار والقلوب تنتظر ولأيام تدور والأسئلة تتوالى إلى الإدارة العليا، متى الفرج يا ولاة الأمر؟ ثم جاء الفرج بأن القرار النهائي لدى الوزير، ثم مكث قرار اللجنة الحيادية والشفاف عند الوزير عددا من الأشهر العصيبة ثم جاء القرار باختيار احد المديرين وكان الأحدث تعيينا نوعا ما في منصبه، وغير الملتحي في بشرته وغير المحسوب على احد، وكانت النتيجة من أجمل النتائج، الكل رضي بهذا الاختيار حيث اكتملت به كل العناصر الصحيحة أو لنقل القريبة من العدل والإنصاف. وأخيرا وليس آخرا، الاقتداء ببيت الزكاة له أسبابه، وباعتقادي أهم سبب واضح وجلي هو توافر دلالات ما ذهبنا إليه في مستهل المقال «العدل أساس الحكم» وتوافر قيم وظيفية واضحة تسير عليها هذه المؤسسة.
وقبل الختام لنا رسائل وبرقيات سريعة حتى نستفيد جميعا:
الرسالة الأولى: إلى ديوان الخدمة المدنية ألا يتم السكوت عن أي جهاز حكومي إذا طال زمن فراغ المنصب القيادي على الأقل سنتين فقط لا غير ولا يكون عشر سنوات أو أكثر من ذلك.
الرسالة الثانية: على الوزراء وحكماء البلاد ان يتخذوا القرارات في وقتها المناسب لا ان تطول مدة اتخاذ القرار لفترة زمنية حتى يظن ان الموضوع اصبح في دائرة النسيان.
الرسالة الثالثة: عدم الالتفات الى الانتماءات، وكأن أي إنسان له انتماء سياسي أو اجتماعي أو غيره هو في دائرة الشك ولا يحق له اعتلاء أي منصب.
الرسالة الرابعة: الرجاء ثم الرجاء ثم الرجاء ممن لديه الرأي والحكمة والرؤية الثاقبة ان يحدد زمن بقاء أي وكيل وزارة أو وكيل مساعد بعدد من السنوات بحد أقصى 8 سنوات فقط حتى يترك المنصب لغيره فلا يمكن ان يفهم ان يبقى البعض ثلاثين سنة أو خمسة وعشرين سنة بالمنصب.
الرسالة الأخيرة: تجربة شغل المنصب القيادي بطريقة بيت الزكاة جميلة وراقية وحيادية، نتمنى ان تعم على جميع الوزارات (للأمانة التاريخية هناك تجربة راقية في معهد الأبحاث العلمية).
وأخيرا: هل سيقوم ديوان الخدمة المدنية لبعض ما طرحناه أم نقوم بعمل لوبي على نوابنا ليكون تشريعا ملزما ونرفع شعارا ـ كما في ميدان التحرير بمصر حماها ربي ـ ونقول فيه «الموظفون يريدون تغيير النظام الإداري» أو «الشعب يريد تغيير الديوان» أي ديوان الخدمة المدنية ودمتم.