أقبل الثلث الأخير من فبراير فاشتعلت في النفس ذكريات الماضي، فجلست على كرسيي، وأغمضت عيني، ورحت أطوف في كل مكان علني ألمح ذاك الطيف الذي عاش في نفسي، وجعلني افخر بين الأمم في أي مكان رحلت، وأي بلد نزلت بأنني مواطن كويتي، شربت من مائها، واستظللت بشمسها اللاهبة المحببة، وخيمت في رحابها.
وفجأة، وبينما أنا على هذه الحال لاح لي من بعيد قوم يرتحلون يلبسون الزي الكويتي الشعبي، فجلست معهم واستمعت إلى أحاديثهم، وكان الحياء يمنعني أن أخالطهم كلامهم لما اراه على وجوههم من علامات الصلاح وكبر السن، بالإضافة إلى أنني لم أعرف أيا منهم، ولكن الذي أعرفه أنهم كويتيون.
وبينما هم يتحدثون إذ ذرفت عيني وبكى فؤادي، فعلامات التعب والإرهاق بادية عليهم، ومع هذا يضحكون ويمرحون، ليس لديهم من المؤونة والطعام إلا القليل، يأكلون شيئا يسيرا منه ويرتشفون الماء الذي يكاد ينفد يتقاسمونه بينهم بالتساوي ويقدمون الأكبر فالأصغر.
رأيتهم يحملون رجلا على ظهرهم، فاسترعى انتباهي هذا المشهد في هذه الصحراء، رجل يحمل رجلا على ظهره فانطلق لساني بعد أن تجاوزت حيائي لأسألهم، فأجابني أحدهم بأن هذا الرجل كبير في السن، وقد تعب من المسير فحملناه، فقلت أفي هذه الصحراء القاحلة والشمس اللاهبة؟! فقال: نحن قوم نسير كرجل واحد، فإما أن نصل معا أو نموت معا.
يا الله، كرجل واحد، ألهذه الدرجة يحبون بعضهم، طعام واحد وشراب واحد ويحملون بعضهم بعضا، ولا يرضون إلا ان يصلوا معا أو يموتوا معا.
نعم، هذا هو الكويتي الذي يحتفل اليوم بذكرى التحرير والعيد الوطني، لم تكن مصادفة أن تجتمع الأفراح كلها في فبراير، فالأمر مقدر منذ الأبد، والشمس لاتزال في مدارها والكواكب لاتزال في أنوائها، فما الذي تغير حتى بتنا اليوم نشتاق إلى ذاك الزمان؟!
إخواني.. ألا يكفي ما يجري من حولنا من تجاذبات وصراعات وحروب، وأمم تموت من الجوع؟ متى سنعي أننا في مركب واحد؟ متى سنفهم أن الحرية أغلى ما نملك وأن الأمان لا يأتي بالتناحرات والاختلافات؟
وبينما أنا على هذه الحال من التساؤلات فوجئت بصوت التلفاز المرتفع يوقظني من غفوتي، ويسمعني صوتا ما عدت أحبه، صوتا بعيدا عني وعن نفسي، فأغلقته ثم عدت إلى غفوتي أبحث عن اولئك النفر الذين التقيتهم، وعندما وصلت إلى المكان الذي كانوا يجلسون فيه رأيتهم قد غادروا فحزنت حزنا شديدا، ولكنهم كانوا قد تركوا لي ورقة بالية ووجدت مكتوبا عليها: «عودوا مثلنا.. كونوا مثلنا».