بادئ ذي بدء، يحتكم قرابة العشرين عائلة في اسرائيل على 35% من الدخل الاقتصادي القومي الاسرائيلي، ولعل أهم تلك العائلات هم: وايزمان، دانكر، هامبرجر، ستراوس، ليفيف، فريدمان، سابان، تيشوفا، وغيرهم. والمتابع للشأن الاقتصادي الاسرائيلي، يستوعب أن تلك العائلات التي استحوذت على غالبية مصادر الدخل واحتكارها منذ الثمانينيات تقريبا جاءت بعد ادخال قوانين الخصخصة وتفعيلها كنوع من الضمان الاقتصادي الذي سيسمح لإسرائيل بالاستمرارية في تكوين الدولة بعد مرحلة تسلم التعويضات من مخلفات الحرب العالمية الثانية من الدول الغربية وخاصة ألمانيا.
حين خرج آلاف الإسرائيليين في مظاهرات حاشدة ضد سياسات نتنياهو الاقتصادية، أخذ الأخير تلك المظاهرات على محمل الجد، وأخذ يسرع في تكوين لجان اقتصادية للوصول الى حلول تناسب جميع الأطراف والتي بدورها تساعد في تخفيف الاحتقان الإسرائيلي الداخلي، إذ تعلم القيادة السياسية في اسرائيل أنها ليست بمعزل عما يجري في الدول العربية المجاورة وان اسرائيل لا تستطيع حماية أمنها القومي الخارجي الذي يشكل احدى الركائز الأساسية لتحقيق الحلم اليهودي المزمع دون استقرار داخلي.
وفي هذا الإطار، لا يمكن اليوم أن نقرأ الواقع الاسرائيلي الداخلي دون التطرق لثورات الربيع العربي، فالإسرائيليون تأثروا بصورة أو بأخرى بما يجري في منطقة الشرق الأوسط، وحين يخرج أكثر من ربع مليون اسرائيلي في شوارع تل أبيب للمطالبة بحقوقه الاجتماعية العادلة، ويصيح من شدة الظلم الاقتصادي الواقع عليه بسبب تلك السياسات الاقتصادية الاسرائيلية المحتكرة لدى عائلات اسرائيلية محدودة لا تتجاوز أصابع اليد والتي لها من النفوذ الكبير اليوم في اسرائيل وخارجها، فهذه إشارة ورسالة قوية للقيادة الإسرائيلية بأن الأمن القومي الإسرائيلي لا يقوم على التسلح فحسب، إنما يستمر ويبقى عندما يتمتع الشعب الإسرائيلي بأبسط حقوقه الاجتماعية.
ما يهمنا في الاحتجاج الاسرائيلي الشعبي، هو التفاعل السريع من قبل القيادة الاسرائيلية لما يجري في الداخل الاسرائيلي، فلم ينتظر رئيس الوزراء الاسرائيلي نتنياهو كثيرا بل أصدر قرارا بإنشاء لجنة إصلاحات اقتصادية برئاسة رئيس المجلس الاقتصادي القومي في مكتب نتنياهو البروفيسور مانويل تراجتينبرج الذي يعتبر أحد أعمدة أساتذة الاقتصاد في اسرائيل، ومن هنا يأتي التساؤل حول ما إذا كانت تلك اللجنة قادرة على وضع إصلاحات ترضي الشارع الإسرائيلي أم أنها مجرد ردود فعل من قبل القيادة الاسرائيلية لكسب مزيد من الوقت ولتغذية شعبها بالآمال والأحلام.
لكننا نظن أن اسرائيل قادرة على وضع حلول للخروج من تلك الأزمة السياسية والاقتصادية وذلك لأنه بالرغم من أن القيادة السياسية في اسرائيل منذ عقود تتداول فيها السلطة عبر انتخابات ديموقراطية ووفق أحزاب مشهرة تختلف في مضامين سياساتها الداخلية، لكنها تتفق جميعها في سياستها الخارجية. وبالتالي، فإن الحكومة الحالية في اسرائيل إذا ما أخفقت في وضع حلول اقتصادية تريح الشارع الاسرائيلي فإن الحكومة القادمة في اسرائيل ستكون من حزب آخر سيحاول أن يصحح من تلك الأوضاع، لكن في هذه الحالة ومع التسونامي الثوري في المنطقة العربية، فإن القائمين على السياسات الاسرائيلية من كل الأحزاب سيتفقون على أهمية إصلاح هذا الخلل الاقتصادي لأنه كلما زادت التوترات الداخلية يؤثر ذلك على ضمان الأمن القومي الاسرائيلي، وعليه لا يمكن تفسير هذه الحالة الاسرائيلية ضمن المصالح الحزبية والانتخابية المؤقتة ومن سيفوز بالسلطة في قادم الأيام، والقضية هنا تهم كل الاسرائيليين من مختلف التوجهات والايديولوجيات لأنها مسألة بقاء دولة اسرائيل من عدمه.
وحتى تظهر نتائج لجنة الاصلاحات الاقتصادية في اسرائيل والحلول التي ستقدمها للقيادة السياسية للخروج من هذه الأزمة، فإن تداعيات هذه الأزمة الاقتصادية على اسرائيل تكمن في أن الجيل الثالث من الاسرائيليين، والمثقف بأدوات وتطبيقات الانترنت التفاعلية كالفيس بوك والتويتر واليوتيوب، أصبح قادرا على ايصال الرسائل وبوضوح للقيادة الاسرائيلية، وأصبح قادرا على تنظيم الاحتجاجات والنزول للشوارع أسوة بالدول العربية وهو ما لا تريده القيادة الاسرائيلية بطبيعة الحال، فتغذية المبادئ الثورية لدى الشباب الاسرائيلي واستخدامه لتطبيقات التواصل الاجتماعي على الانترنت لتفعيل تلك الثقافة الثورية الجديدة يخلقان أزمات سياسية وأمنية للدولة الاسرائيلية والتي يمكن أن تهدم كل ما تم بناؤه من حلم تأسيس الدولة اليهودية، فلن تستمر اسرائيل طويلا في ظل ثقافة ثورية لجيل الشباب الاسرائيلي الذي أخذت فيه الاحتياجات المادية من وظيفة ومسكن ومأكل تصبح أهم من الاحتياجات الأمنية والسياسية التي كانت للجيلين الأول والثاني لاسرائيل. وهذا المنعطف القوي في تاريخ اسرائيل يمكن أن يهدد أخيرا الدولة الإسرائيلية، والتي عجزت دول عربية عدة من تحقيق أي انجازات في صعيد الإضرار بالدولة الاسرائيلية، فأضرارهم نابعة اليوم من الداخل الإسرائيلي، والتي هي ـ دون شك ـ تعتبر من أشد الأضرار التي يمكن أن تعوق أحلامهم وتطلعاتهم المزمعة.
[email protected]