تشكل قضية الإضرابات والاعتصامات في قطاعات متعددة من الدولة هاجسا مقلقا لما ستؤول إليه الأمور في قادم الأيام، ومع المتابعة المكثفة لما يجري في الساحة الكويتية إزاء هذا الشأن نلاحظ وجود تفسيرين لهذا الأمر، الأول: أن الإضرابات والاعتصامات أمر إيجابي ولا ضرر منه طالما أنه يعبر عن حالة استياء وظلم واضحين على العاملين في قطاع الدولة، وأن هذه الأساليب جاءت بعد تعنت الحكومة وإغلاق أبوابها للمتظلمين، فأصبحت السبيل الأفضل لتحقيق العدل والمساواة المطلوبين.
أما التفسير الثاني، فجاء بأنها أساليب تسبب أضرارا جسيمة لقطاع العمل الحكومي في الكويت، والمطالبات التي تقف على أساسها تلك الإضرابات والاعتصامات ما هي إلا مطالبات مادية بالدرجة الأولى ما يؤدي الى خلق مزيد من المشكلات والحرج الاقتصادي على الكويت وحكومتها.
وإذا ما رجعنا إلى الوراء لمحاولة البحث عن أصل المشكلة، نلاحظ أن هناك سوءا في إدارة شأن المرتبات والكوادر في قطاعات الدولة وخللا جسيما في المسميات الوظيفية، ناهيك عن تناقضات واضحة بين وظائف الدولة في قطاعات العمل الحكومية.
ولعل أهم أسباب ذلك في نظرنا، عدم القدرة على وضع أسس علمية في شأن الوظائف والمرتبات والكوادر في قطاعات الدولة وقصر نظر واضح للقائمين على هذا الشأن بعدم مراجعة ومتابعة هذه القضية لأنه من المفترض أن يكون هناك تقييم ومتابعة كل ثلاث سنوات أو خمس سنوات لدراسة الحالة الاقتصادية في الدولة والتضخم الاقتصادي وأعداد العاملين في القطاعات وغيرها من المعايير الفنية التي يجب أن توضح للقائمين هذا الشأن بنظرة شاملة وواضحة تجنبنا ما نحن فيه اليوم.
إن وضع السياسات العامة والدراسات الخاصة في هذا الخصوص من شأنه أن يحقق الاستقرار النفسي والمادي، فاستباق الأمور وتحقيق العدالة والمساواة بخصوص هذه الجزئية تمنع عملية المصادمات والتنازلات وتوفر بيئة عمل صالحة تحقق الأمان الفكري والمادي والمعنوي للموظف.
وبغض النظر عن مشروعية المطالبات من عدمها في الإضرابات والاعتصامات المتعددة في قطاعات الدولة المختلفة، فإن هذه الأمور يجب ألا تحدث ويتحقق ذلك لو أن المعنيين بشؤون هذه القضية قد وضعوا الأسس العلمية الصحيحة مع تقييمها ودراستها بشكل علمي بحت مما يرفع الحرج الذي يصيب الكويت كلها اليوم.
وهذا ما ينقلنا إلى تداعيات سوء الإدارة وغياب الاستراتيجيات والسياسات العامة، وما يحدث اليوم من إضرابات واعتصامات مقارن بصورة أو بأخرى بمفهوم المواطنة الحقيقية التي ننشدها ونطالب بتنميتها وتعزيزها. فحين يشعر الفرد بخلل في أمنه الاقتصادي تقل الدافعية إلى مواطنة صالحة، ويعجز حينها عن الانخراط السليم مع المجتمع لأن شعور غياب الحقوق والعدالة والمساواة التي يكفلها الدستور الكويتي يقلل من مقومات المواطنة بشكل عام ومن مقومات الانتاجية والاخلاص للعمل بشكل خاص. فعندما يتحقق مفهوم المواطنة الصحيح يعزز ويقوي ذلك بدوره الأمن السياسي والفكري والثفافي والاقتصادي بصورة عامة.
وبما أننا نركز على قضية اقتصادية ونفسية بعينها، فإن تحقيق التنمية الاقتصادية والاستقرار في البلد يأتي بتوفير كل أسباب الرقي الاقتصادي لجميع شرائح المجتمع بصورة عادلة وكشرط أساسي للتنمية. فعندما تتعدل الأمور لقطاع بعينه دون النظر لبقية القطاعات، فإنه من الطبيعي أن تصدر الاحتجاجات والاعتراضات ويتفشى معها شعور الظلم مما يعرقل مقاصد المواطنة الصالحة لدى شرائح عديدة في المجتمع وبالتالي يكون الدور الفعلي للموظف الكويتي وواجباته تجاه مجتمعه ووطنه ضعيفا، وبالتالي فإن هذا يبث في نفس المواطن غياب الحقوق والامتيازات التي يكفلها له الدستور، وتصبح مسؤوليته وواجباته التي يفرضها عليه الدستور غير حاضرة. فهذه المعادلة ليست معقدة، فمتى ما تحققت العدالة والمساواة أصبحت المسؤولية والانتاجية حاضرة.
من ناحية أخرى، لا يمكن أن نستبعد قضية الفساد المليونية وأثرها على الاضرابات والاعتصامات الحاصلة في الكويت اليوم. ريحة الفساد العفنة التي اشتمها الكويتيون ككل أضعفت إلى حد كبير حس المصلحة العامة، مما أدى إلى ضعف شديد في حس المواطنة، وهو ما زاد في الوقت نفسه تفضيل مصالح الجماعة الضيقة على المصلحة العامة. بمعنى آخر، تداعيات القضية المليونية أنتجت بيئة خصبة لتغليب المصالح الشخصية على المصلحة العامة خاصة أن آليات المراقبة الإدارية والسياسية التي غضت البصر عن هذا الفساد لشهور عدة من دون اتخاذ أي مواقف صارمة للتصدي لها ساعدت على تعاظم حس المصلحة الشخصية والرؤية القصيرة الأمد على حساب الكويت ومستقبلها.
وبناء على ما سلف، لا يمكن أن نعزز حس المصلحة العامة والتي هي مقترنة بشكل كبير مع حس المواطنة الصالحة في بيئة طغى عليها الفساد بصورة واضحة وفاضحة، كما يتعذر علينا أن نطالب الفرد بتحسين فهم حقوقه كمواطن وواجباته لبلده دون أن نسد باب الفساد الذي نخر الجسد الكويتي بجميع أشكاله الأخلاقية والمالية والإدارية والاجتماعية. فمن المسلمات أن المواطنة الصالحة تأتي عند طغيان شعور المساواة والعدل وعند محاربة الفساد. فإذا ما استمر الفساد في البلد وتعززت مفاهيم الواسطة والمحسوبية وغض النظر عن الفاسدين فسنجد بالتالي أنفسنا في مطالبات غير مجدية لتعزيز حس المواطنة الصالحة وتغليب المصالح العامة على المصالح الشخصية.
[email protected]