أحمد العنزي
لو تأملت صورة سقراط فإنك لن تجد فيها شيئا من الوسامة والجمال فمنظره قبيح إلى درجة أن زوجته كانت تلاحقه بين الطرقات لتلعنه أمام تلاميذه وتلعن حظها معه، ولهذا قال سقراط: تزوج يا بني فإنك إن تزوجت امرأة صالحة فستحيا حياة هادئة سعيدة، وإن تزوجت امرأة سليطة اللسان كزوجتي فستصبح حتما فيلسوفا؟
كيف تصبح فيلسوفاً – من طراز سقراطي – ومنظرك قبيح؟
هنا - للإجابة عن هذا التساؤل - يكمن الشاغل الفلسفي الذي شغل بال سقراط بحيث كرس له جل حياته الفلسفية، وهذا الشاغل أو الهم الفلسفي ليس معزولا عن الواقع بل هو متجذر في صميم التصور اليوناني السائد لمفهوم الجمال والذي يقول إن جميل المنظر هو بالضرورة جميل في كل شيء حتى في الرأي والأفكار. لقد وجه سقراط أسئلته الماكرة إلى المفاهيم التي يتكلمها ويستخدمها الناس في حياتهم اليومية ويبنون عليها سلوكهم وتصوراتهم وتصبح بالتالي مسلمات لا يمكن المساس بها كالتساؤل عن معنى الجمال؟ الخير؟ التقوى؟
ولهذا يقول تلميذه أفلاطون: إنني لا أريد أن أعرف إن كنت تظلمني أو إن كنت أظلمك، ولكني أريد أن أعرف ما هي العدالة؟ وقد يعتبر البعض أن مثل هذه التساؤلات مجرد ثرثرة يجيدها الفلاسفة، ولكنها في حقيقة الأمر تساؤلات محورية ومهمة، فنحن دائما نقول: هذا صديقي وهذا بيتي وهذه وظيفتي أو سيارتي، وكأننا نملك هذه الأشياء بالفعل، ولكن ما معنى الملكية على الإطلاق؟
وفي البحث عن هذا المعنى سنجد أنفسنا في صميم التفكير الفلسفي وكأننا فلاسفة رغما عنا!
لقد قدم لنا سقراط درسا في كيفية ممارسة فعل التفلسف بجدية وعلى أكمل وجه. إن تساؤل سقراط عن معنى المفهوم أو ماهية الشيء - الجمال أو العدالة، الحب، الصدق.. الخ يكشف لنا عن مهمة صعبة حملها سقراط على عاتقه وهي التنبيه الى التناقضات التي يعيشها الإنسان بلا وعي، وبمجرد الانتباه والوعي لهذه التناقضات فإن الإنسان يدخل في مرحلة قلق وتوتر بإزائها، وهذا التوتر ناجم عن تعارض وتناقض بين السائد والجديد، أي بين الماضي الذي اطمأن إليه الفرد بلا فحص ونقد والحاضر الذي يفرض نفسه فرضا بكل متغيراته وأسئلته الملحة. فأسئلة سقراط هي كالحجارة التي يلقيها في المياه الراكدة ليحركها ويوقظها من سباتها الوثوقي. وهنا نتساءل هل مهمة الفيلسوف السقراطي هي أن يثير فينا التناقضات لمجرد الإثارة فقط؟ في الحقيقة ليس من مهمة الفيلسوف السقراطي أن يثير التناقضات لكي يتفرج على توتر عقل الإنسان المتسائل فقط، ولا من مهمته أن يستمتع برمي الأحجار بل إن مهمته الرئيسية هي أن يكشف عن هذه التناقضات من خلال البحث الدءوب عن أسسها ومضامينها الهشة التي قامت وتأسست عليها لأنها لو لم تكن كذلك لما قامت التناقضات ولما تساءل العقل الإنساني حولها. وتتم هذه المهمة أولا بالوعي بها ثم بالاتجاه إلى فحصها ونقد أسسها ثانيا، فالحياة التي لا يتم فحصها باستمرار - كما يقول سقراط - غير جديرة بأن يحياها الإنسان. وبعد الوعي بالتناقضات وفحصها يستعد المتفلسف لتجاوزها وتخطيها، والتجاوز معناه تأسيس وبناء مفاهيم صلبة لا يزعزعها الشك وقادرة في نفس الوقت على الصمود أمام النقد والتحليل العقلي والمنطقي.
هذه العملية الفلسفية هي التي تشكل ما يسمى بالتفكير النقدي الذي يتخذ فيه الإنسان موقفا خاصا إزاء أي مشكلة مطروحة أمامه ولهذه العملية فعل خاص لذلك الموقف الخاص وفعلها الاندهاش والشك الذي يتجه صوب الكلمات والأشياء المباشرة والتي ستفقد – مع الشك – مباشرتها وبداهتها المعهودة متى ما أثرنا حولها أسئلة فلسفية صميمية تكشف لنا عن وجهها العميق الذي لم نألفه ولم نعرفه من قبل.
طبق عزيزي القارئ درس سقراط هذا وستجد أنك أمام محصلة من المفاهيم والعبارات والشعارات والألفاظ والتي - إن تفحصتها جيدا - ستجد أنه ليس لها أي معنى، لكننا نمارسها ونسلم بها بل نعتبرها حقائق نطلب من غيرنا التسليم والايمان بها.
وإليك بعضا منها:
-
حكومة إصلاحية، أليس من الأجدر أن نقول حكومة تنموية.
-
هيبة الأسرة الحاكمة، ألا تعتقد أن المسألة هنا يكتنفها التشويش.
-
التيار الإسلامي، أليس الإسلام ديناً وليس تياراً.
-
الليبرالي، شخص لا أجد له معنى في مجتمعاتنا.
-
غير محدد الجنسية، لم أسمع بهذا المسمى إلا في بلدنا.
والقائمة طويلة.