لمجتمعنا دور رئيس في إحياء العادات والتقاليد التي كانت نتاج البيئة الجاهلية يوم كان الناس أشتاتا يأكل القوي منهم الضعيف، وطبقات تحددها الحيوانات المنوية، غير أن ذلك الواقع الاجتماعي الغابر لم يكن كله منحطا في دركات التخلف، فقد كانت تضيء في ظلامه الدامس نجوم تراها العرب وتعرف منازلها، كتوقير الرجال الذين شهدت لهم أفعالهم بالعز والسؤدد وسداد الرأي والحكمة حتى وإن كانوا أبعد ما يكونون عنهم رحما، حتى وإن كانوا ألد أعدائهم، والقصائد التي يسميها نقاد الشعر (المنصفات) تشهد لهم على ذلك.
هذا بعض ما لا ينكر من أمر المجتمع الجاهلي، وليس المجتمع المعاصر الذي نعيشه اليوم ببعيد عن واقع ذلك المجتمع الأول الذي بيننا وبينه 14 قرنا من الإسلام، فهاهو مجتمعنا المعاصر ينظر أول ما ينظر إلى القبيلة والعائلة والجنسية، وكل ما يكون بعد ذلك، فإنه تبع للتصنيف القبلي والعائلي وموقع الأرض التي قدر الله أن يولد فيها الإنسان، وليت كثيرا ممن يعيشون بيننا في هذا العصر يفعل كما يفعل أهل الجاهلية حين ينزلون الناس منازلهم بحسب هذا التصنيف، ثم بحسب التصنيف الشخصي الذي فرضه صاحبه على ضمائر الجاهليين وعقولهم حتى أقروا له ـ ولو كرها ـ بالفضل ورفعة الشأن، وأما عقول جاهليي مجتمعنا، فلست أدري من أي شيء تلك الجمجمة التي تغلف رؤوسهم، فبرغم تواتر النصوص المقدسة في القرآن الكريم والسنة المطهرة والتي تجلى فيها البيان الصريح أنه لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، فإنك واجد العنصرية البغيضة تعشش حتى في كثير من اللحى الطويلة سواء في الانتخابات النيابية أو في العلاقات الاجتماعية ذات الطبيعة الخاصة، أوليس هذا المذهب المعمول به علانية هو مذهب أبي جهل؟! وفي المقابل تجد الغرب الكافر يضرب بهذه المعايير عرض الحائط ولا يكترث بها البتة، وهو الأمر الذي يجعلك تلجم عندما تدفعك العاطفة لمدح بني قومك العرب المعاصرين، فتغدو بحال عمرو بن معديكرب حين قال:
ولو أن قومي أنطقتني رماحهم .. نطقت، ولكن الرماح أجرتِ
إن الألقاب التي يصدر اسم الإنسان أو يذيل بها معيار لا يمكن أن يتغاضى عنه كثير من أبناء المجتمع العربي الذي رضي طيلة قرون عديدة أن تحكمه سلالة ما إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وليت هذا المجتمع كان ذا وفاء لهذا المعيار الجاهلي، فكم رأينا الدينار يقلبه رأسا على عقب، فإذا الذي كان بالأمس عندهم من الرعاع يصبح سيدا تطأطئ الرؤوس لتقبيل أنفه،
وأعود أيضا وأقول ليت الأمر وقف عند هذا الحد، فثمة كراسي من أجلسه الحظ عليها وربما الغش والنفاق، فإنه يستثنى من تلك المعايير، ويصبح هو الآخر بين عشية وضحاها ذا أنف مقدس مقبل بغض النظر عن ذيله.
إني لا أقول الجميع، ولكن قلما تجد المعيار عندنا سواسية الإسلام أو إنصاف الجاهليين.