يسير القلم في الصحافة العربية على السطور وكأنها حبال السيرك، يضع اعتبارات شتى لكل سطر، على أمل أن يأتي يوم ينطلق فيه من عنانه لا يرقب إلا ضميرا يتشبث بالحياة، وعقلا يتوخى الحكمة، وقلبا يعشق الكرامة، وروحا تحتضن النور، وما أصعب أن تستصحب القلم في العالم العربي وفي معيته الحق والصدق والوضوح، إن طي السطور يغدو كالسير في حقل من الألغام، ولذا قلّما أن ترى في الصحافة العربية أقلاما حرة تمضي على السطور دونما عكاز تستند عليه من أحد، ولا عزاء للقلم الحر وهو ينزف ما يظنه صوابا ويحسبه صلاحا إلا أن ينبت مداده ثمارا طيبة حين يغمده الدهر قسرا.
إن الكلمة أمانة يعرف قيمتها من حمل القلم رسالة وليس بضاعة يبيع فيها ويشتري، وما أقبح تلك الأقلام التي تقيء القيح علانية دونما خجل من أحد، تستعرض سطحية فكرها وضحالة ثقافتها ودنو غاياتها، ليشهد تفشيها بامتداد الفساد السياسي وانحسار الوعي الشعبي، وهي نتيجة بدهية لمختلف مقدماتها، فالفساد السياسي متأثرا ومؤثرا بالأسواق المحتكرة والأموال المفترسة لا يمكن بحال أن تمتد يده في مناحي الحياة كلها لولا كثرة الأيدي التي تصفق له والأقلام التي تلهج بالثناء عليه! وقد سئل فولتير عمن سيقود الجنس البشري؟ فأجاب: الذين يعرفون كيف يقرأون.
إن النفس البشرية تواقة إلى الحرية والانطلاق ولكنها قد تتعدى وتتمادى إن لم تصدها النفوس الحرة وتوقفها عند حدود حريتها الخاصة، وتزداد خطورة الحرية العمياء كلما كانت سلطتها أكبر ونفوذها أقوى من جهة، وخفوت صوت الحق والحكمة وطأطأت عامة الرؤوس من جهة أخرى، وقديما قال المتنبي:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفة فلعلة لا يظلم
لقد تفشت في الآونة الأخيرة ظاهرة شكر أعضاء مجلس الأمة على خدمات كان ينبغي أن تنهض بها الحكومة على أكمل وجه دون أن تريق ماء وجه الشعب عند أبواب نوابه، ولكنها فيما يبدو تتعمد سياسة الأبواب المغلقة لكيلا تفتح إلا لعلي بابا ومن معه، وهكذا يمسي المواطن العادي يتلمس في وجوه الناس من يعيد له حقوقه، ويحقق له مطالبه، ويمد يد العون له، لماذا يستعبد الشعب على هذا النحو وتهدر كرامته، لماذا لا ينال أصحاب الحقوق حقوقهم بذواتهم وبقوة الحق، ولماذا تتفشى الواسطة في عظائم الأمور وحقيرها، إن هذا الصنيع من الحكومة يوهن ولاء الشعب لها، وهو الأمر الذي ما كان ينبغي أن تعطيه لأحد كائنا من كان، ولكنها تهاونت فيه، وأسلمت الشعب كله لنوابه ليسجل النقاط في خانة الصحة تارة، وفي الدراسة حينا، وفي مصدر رزقه أحيانا أخرى، فما الذي تبقى للحكومة عند الشعب إذا كانت المفاتيح كلها بيد النواب وأصحاب الوجاهات والنفوذ؟!