من المعلوم ان للتاريخ أياما يقف فيها مرفوع الرأس عالي الهامة، لا تنسى مدى الدهر، تسطر بحروف من نور في صفحات الشعوب والأمم، فبعد صمود منقطع النظير دام اكثر من 50 يوما في مواجهة آلة القتل الإسرائيلية التي خلفت وراءها آلاف القتلى والجرحى، ومع ما آلت إليه الأمور من سوء خلال الأيام الأخيرة من الحرب، استطاعت غزة يوم الثلاثاء الماضي تحقيق نصر مستحق بتوقيع إسرائيل معها اتفاقا يقتضي وقف شامل ودائم لإطلاق النار بين الطرفين، بالإضافة الى فتح المعابر الحدودية وإعادة إعمار القطاع، وتوسيع نطاق الصيد البحري أمام السواحل الى 6 أميال بدلا من 3 والعديد من البنود التي ستبحث لاحقا تصب جميعها في صالح الفلسطينيين.
ومع الإقرار بالخسائر الفادحة والثمن الباهظ الذي دفعه أهالي القطاع، إلا ان المقاومة قالت كلمتها وحسمت المعركة للمرة الأولى دون جدل المناورات السياسية وتحدت الغطرسة الإسرائيلية، مؤكدة بما لا يدع مجالا للشك ان العدو لا يفهم سوى منطق القوة، فضلا عن انها كشفت هشاشة الكيان الصهيوني، وأظهرت عيوب التشرذم العربي، فقد اذهل أبناء فلسطين العالم بالعزيمة والإصرار واتباع سياسة النفس الطويل، حتى افقدوا العدو صوابه، واجبروهم على إغلاق مطار بن غوريون لأيام عديدة، ما كبد اقتصاد تل ابيب خسائر قدرت بمليارات الدولارات.
وفي حضرة البندقية، فقد احدث «العصف المأكول» هزة عنيفة وتغييرا كبيرا في مستقبل العقيدة الأمنية الإسرائيلية، معلنا فشل «الجرف الصامد» في تحقيق أي من أهدافه التي اعلنها كبار القيادات في بداية العدوان، وبموازة ذلك الانتصار العسكري، بدأت المياه السياسية الراكدة تتحرك على الصعيدين الإقليمي والدولي ليس فقط لفك الحصار ولكن لإيجاد حلول دائمة للقضية الفلسطينية.
ولم يكن ضعف الدعم العربي لغزة خلال الحرب أمرا يثير الاستغراب، ولكن الأغرب انه فور الإعلان عن التوصل لاتفاق التهدئة تعالت العديد من الأصوات العربية، للتهوين من شأن انجازات المقاومة الفلسطينية او نسب الانتصار اليها، بل واتهامها بالتضحية بالمدنيين لتحقيق بطولات زائفة ومصالح ضيقة، وهنا نستطيع ان نقول لهم ان المقاومة تحدثت عن نفسها بوضوح في ميادين القتال وخاضت معركة العزة والكرامة، ومن ينكر ذلك، بإمكانه الاطلاع على ما نشرته وسائل الإعلام واستطلاعات الرأي الإسرائيلية التي اعترفت علانية بانتصار حماس وفشل قادة بلادها، فهل كنا نتمنى ايها العرب سحق المقاومة واستئصال شئفتها؟ أكنا نريد ان يعيد العدو احتلال غزة مرة أخرى؟ وهل الاختلاف الايديولوجي مع فصيل معين يجعلنا نصل لهذا الحد من الجحود؟
وامام تلك البطولات والتحولات الجذرية بعد معركة العزة والكرامة، نستطيع القول بأن الطريق الوحيد للتعامل مع العدو الصهيوني يمر عبر فوهة البندقية، فتلك هي اللغة الوحيدة التي اعتاد عليها وفهم معناها.
باختصار، يمكن للمقاومة الفلسطينية تحقيق العديد من الانتصارات الاستراتيجية عسكريا وسياسيا، شريطة ان يتم رأب الصدع الفلسطيني ـ الفلسطيني، فقد أثبتت التجارب ان الانقسام الداخلي اخطر على الشعوب من عدوها الخارجي.
[email protected]