في اواخر العام الدراسي 2004، قررنا نحن «شباب المستقبل» في الجامعة اللبنانية- كلية الاعلام والتوثيق الفرع الاول- طلب موعد من رئيس الحكومة الاسبق الشهيد رفيق الحريري لوضعه في جو الخروقات الاكاديمية التي يقوم بها اساتذة بعض الاحزاب لصالح طلاب يدورون في فلكهم السياسي.
وللأمانة فقد كان اللقاء ملحا من جانبنا لطلب وساطة الحريري لدى اساتذة «المستقبل» لمساعدتنا في امتحانات اخر السنة على غرار بعض هذه التيارات السياسية!
وكعادته لبى الشهيد طلب اللقاء. وانطلقنا مساء أحد أيام الخميس من امام الكلية الى قريطم بلباس «شيك» ولكن بـ «فان نقل عمومي» اختير سائقه بعناية من «طريق الجديدة» حفاظا على سرية مسرحية تقسيم الادوار التي اعدت في الطريق.
وصلنا الى قريطم وانتظرنا في قاعة الاستقبال قرابة ربع الساعة لم تخل من شرب العصير الطبيعي 100% وبعض النقاشات الجانبية لما سيكون عليه موقف الحريري من طلبنا المرتقب.
دخل الحريري فارضا هيبته و«كاريزمته» على اللقاء لنتحول بقدرة قادر من «عناتر» الى «ملائكة» يريدون فقط سماع الاب السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
وفي قاعة «زت الابرة فيها بترن» قال الحريري «شو يا شباب كيف الكلية؟ وين صرتوا؟».
في هذه اللحظات عاد احد الزملاء المكلف من قبلنا بالكلام الى «عنتريته» وقال: «دولة الرئيس، الكلية جيدة ولكن فيها زعبرة كتير.. تخيل بعض الاساتذة المنتمين الى بعض التيارات السياسية يساهمون في نجاح طلابهم»!
وتابع: «صراحة جئنا لطلب العون والمساعدة.. ليش دكاترة تيار المستقبل ما بيساعدونا؟ شو ناس بسمن وناس بزيت؟».
فابتسم الحريري ابتسامة مليئة بثقة رجل الدولة، وقال «يا شباب اللي مع رفيق الحريري يا بينجح بعرقو يا انا بالغنى عنو».
هنا ارتفعت الصيحات والتصفيق العالي مع «قبة شعر بدن» على الرغم من «رد الطلب»، وكأن شعورا بالاعتزاز أفاق بداخلنا بأن «زعيمنا» لا يرضى بـ «الزعبرة» كغيره.
وحتى اليوم لا يزال كثيرون ممن كانوا في تلك الجلسة يتنازعهم الشعور بـ «القهر» لانهم لم ينعموا بخطوة «الزعبرة»، وبنفس الوقت ينتابهم الشعور بـ «الاعتزاز» لانهم ليسوا من جماعة «الزعبرة»!
هذا التنازع كان من الاشكاليات العميقة التي رافقت رفيق الحريري في ادارته للزعامة السنية حتى استشهاده. أراد الرجل ان يقنعنا بمزايا «المليشيا المثقفة» كبديل يعالج عقدة «النقص المليشيوي» الذي تشكو الطائفة السنية منه بقدر ما تفخر به. وكانت ادارته المميزة للدولة والانماء والاقتصاد عنصرا معوضا لفارق المزايا التي يحصل عليها الاخرون.
لكن «المليشيا المثقفة» محبطة اليوم. لم تجدها مزاياها الافتراضية نفعا حين اقتحمت الميليشيات «الحقيقية» احياء بيروت عام 2008 وفرضت ارادتها السياسية، وحصل ما هو أسوأ في قلب الميليشيا الافتراضية نفسها، التي تحولت عن طريق الصدفة، «كي لا تكون ذمتنا واسعة»، الى تيار تحكمه المصالح الضيقة التي افقدته على مر 7 سنوات الكثير من قيمه الاساسية رغم ارتفاع اسهمه شعبيا مع ارتفاع الخطاب المذهبي.
وفي لحظة الاحباط هذه، وقع ما لم يكن بالحسبان، فالبوعزيزي احرق نفسه احتجاجا على الفساد في تونس، فر زين العابدين بن علي لـ «ينفذ بجلده»، عمت الثورات والاحتجاجات معظم الدول العربية، عقدت طاولات للنقاش داخل جميع التيارات اللبنانية لقراءة الواقع الجديد كل من منطلق تحالفاته الاقليمية والدولية، واستحدث الرئيس سعد الحريري «اكاونت» على «تويتر» للتواصل مع الشباب بعد ان كانت هذه المهمة تتم بـ «الوكالة»!
وفي اولى تصريحاته وتعليقاته على «التويتر» قال الحريري: «نعد بالعمل على اصلاح الخلل داخل تيار المستقبل وخصوصا فيما يتعلق بالكتلة النيابية وعملها».
«محسوبكم سعد» يعلم جيدا ان «زمن اول تحول» وان الربيع العربي الذي قام على مبدأ الاصلاح واجتثاث الفساد ستصل شراراته الى لبنان من خلال تغيرات داخل الطوائف والاحزاب وسلوكياتها ان سلمنا جدلا بأن نظام الحكم المهترئ لن يصاب بتغييرات جوهرية لاسباب معروفة للجميع.
ولكن الشيخ سعد الذي يتهيأ للعودة الى الحكم على «فرس ابيض»، قد لا تكتمل فرحته او ربما تنتقص الظروف الجديدة في المنطقة من وهج هذه الفرحة كي لا نكون «متشائمين»، لاسباب تتعلق اولا بتاريخ الطائفة السنية في لبنان، وثانيا بأداء تيار المستقبل داخل هذه الطائفة بشكل عام.
التحدي الاكبر سيكون داخل الطائفة السنية التي اخذت دائما من عمقها العربي خيارا سياسيا استراتيجيا تعمل على اساسه وتدور في فلكه، منذ رفضها الانفصال عن بلاد الشام في عشرينيات وثلاثينيات واوائل الاربعينيات من القرن الماضي، وصولا الى السير بخيار المقاومة الفلسطينية مع «ابو عمار» في السبعينيات، مرورا بالهوى الناصري الذي لفح معظم الدول العربية في الخمسينيات والستينيات.
واليوم وفي ظل الثورات العربية والخريطة السياسية التي يرسمها الاسلاميون في معظم الدول المنتفضة، يدور نقاش عميق داخل الطائفة السنية في لبنان وتكثر الاسئلة بين نخبها: هل سيتأثر السنة بالهوى العربي الاسلامي الجديد؟ هل يستطيع الاسلاميون فرض معادلة جديدة في الداخل اللبناني تكون اقدر على فرض التوازن مع حزب الله؟هل يتسع تيار المستقبل لطائفة منتشية بالربيع العربي.. وفرض معادلة وطنية تتماشى مع الثورات؟
تقع اليوم على عاتق الرئيس سعد الحريري مسؤولية مزدوجة اولا تجاه طائفته وثانيا تجاه العمل الوطني كون «المستقبل» يمثل العامود الفقري لـ «14 اذار»، فلابد من اكمال الاصلاح داخل «المستقبل» وتحويله من حزب قائم على التزلف والعلاقات الشخصية الى شبكة سياسية لها قواعد واضحة في الولاء والارتقاء، كما لابد من اطلاق مشروع وطني كامل يقوم على المصالحة بين جميع الافرقاء.
فهل يتدارك الحريري واقع الحال في تيار المستقبل فيطلق حملة اصلاحات داخلية تضعه في موقعه الصحيح في قلب «الربيع العربي»؟! أم ان سنّة لبنان سيذهبون باتجاه عمقهم العربي الصاعد اسلاميا؟