أمينة العلي
هل الناس على تلك الصورة من الأنانية حتى أنهم لا يتصرفون الا بدوافع المصلحة؟! هل النفاق هو شريعة التعامل بينهم؟ هل خلت النفوس من الصفاء والقلوب من المحبة؟! وهل نحن مثل الآخرين ننافق ونتملق ولا نتعارف الا بوحي المصلحة؟ إذن لماذا نتعب ونشكو ونتباكى على افتقاد معاني المودة والتعاطف على افتقاد البشر؟
تساؤلات كثيرة دارت في خاطري وأنا أستمع الى شكوى صديقة أصبحت أرملة في ليلة وضحاها، قالت لي صديقتي الشابة الجميلة: كان زوجي رجلا اجتماعيا علاوة على مركزه الأدبي الكبير، وربما بحكم مهنته التي كانت تحتم عليه كثرة الاتصالات بعديد من الشخصيات عشت معه حياة اجتماعية واسعة.. أحيانا أكثر من اللازم الدعوات كانت تنهال علينا، رنين التلفون لم يكن ينقطع، وكان زوجي بطبيعة عمله كثير الأسفار، وأشهد ان السؤال عني وعن الأولاد من جانب أصدقائه وأهله وزملائه ومعارفه لم يكن أبدا يقل في غيابه عنه في وجوده ان لم يكن يزيد، كانوا جميعا يتسابقون إلى تقديم خدماتهم وإلى اظهار اهتمامهم في غيابه لم نُترك وحدنا، وكانت مجرد اشارة مني أو من أحد الأولاد تعتبر أمرا واجب التنفيذ، وكان زوجي يعود فأحدثه عن اهتمام الجميع ورعايتهم لنا في غيابه.. طبعا كان يحرص على شكرهم وأيضا على رد جميلهم، وطبعا كان قادرا على ذلك، وبعد ان ذهب زوجي فجأة.. خلال أيام الحداد الأولى التف حولي الجميع، ظننت ان سؤالهم ورعايتهم واهتمامهم كل ذلك سيستمر تماما كما كان بالسابق ولكنني اكتشفت بمرور الأيام ما أذهلني، بل صدمني فقد بدأ الناس ينفضون من حولي الى الحد الذي وصل بعضهم الى عدم تكليف نفسه مشقة رفع سماعة التلفون للسؤال عنا، وتستمر صديقتي في وصف معاناتها قائلة طبعا ليس كل الناس، لأنني على صلة بصديقتين لا تفارقاني ولكنني أتكلم على العموم وأخيرا أدركت السبب، في كل مرة سابقة كان غياب زوجي تعقبه عودته، لكن هذه المرة تيقن الجميع انه لن يعود ابدا وانتهت المصلحة وسقطت الأقنعة، وظهر البعض على حقيقته، فلما كانوا يهتمون بالسؤال عنا لم يكن ذلك اكراما لسواد عيوننا أو لدوافع انسانية صادقة وإنما كانوا يتملقون الرجل لمركزه وللوصول عن طريقه الى ارضاء نزعات غرورهم أو لقضاء مصالح حياتهم.
وهنا نتساءل هل حقا هذه حقيقة الناس؟ وسرعان ما استنكر المنطق هذا التعميم الذي يتنافى مع التفكير السليم وما دمت استثني أنفسنا وننفي عنها شبهة ما نتهم به الآخرين فنحن اذن نعترف بوجود بذور الخير والانسانية. وان واجبنا يفرض علينا ان نتريث في أحكامنا على الآخرين وأن ننظر الى تصرفاتهم نظرة واقعية وألا نحاول ان نطالبهم بما لا يستطيعون أن يبذلوه.
والواقع، أقولها لصديقتي الأرملة ان فئة كبيرة ممن في وضعك لها أوهامها فتتصور أن ابتعاد الآخرين مقصود لكن ربما ابتعادهم عنك جاء خشية همسات السوء أو خوفا من الاغراء، فأنتِ أرملة وامرأة وحيدة ويمكن أن تكوني مطمعا، لذلك تحرض بعض الزوجات أزواجهن على الابتعاد عنك وأنا لا أنفي ان ذلك قد يحدث من أفراد قليلين، ولكنه يدور كثيرا في رأس الأرملة ويملأ خيالها فيدفعها إلى السلبية مع الجميع بلا تفرقة، مع الطيب والخبيث.. ومن ذلك كله فإننا يجب ان نتريث في أحكامنا على الآخرين وأن ننظر إلى تصرفاتهم نظرة واقعية وألا نحاول أن نفترض في الناس أكثر مما يستطيعون أن يبذلوه، وأن نخلص أنفسنا من شوائب الخوف ومزاعم الكبرياء وقبل أي شيء آخر يجب أن نتعلم العطاء.
ولا يعني ذلك إنكار وجود المنافقين، فهم موجودون دائما في كل قطاع وفي كل شريحة، في كل الظروف ولكن وجودهم يجب ألا يضللنا عن الحقيقة ويدفعنا الى التعميم المطلق ويجب ألا ينسينا صورا رائعة للإنسانية في أسمى معانيها تعيش بيننا وتأسرنا بجمالها وظلالها.. ولكن ماذا يمكن لي أن أعلل مواقف بعض الناس في الظروف التي ذكرتها.. من الضروري أن أؤكد على حقيقة مهمة وهي أنه من السهل على الجميع أن يأخذوا ولكن الصعوبة كل الصعوبة في العطاء.
فالعطاء موهبة..