أنوارعبدالرحمن
كل شي هنا يبدو عاديا، المناخ، البشر، حتى القطط التي تتخطف الشوارع، السكون يخيم بأجوائه على هذه المنطقة، جلست دقائق أحدق في تفاصيل هذا المكان والزمان، ولم أجد ما يثير فضولي.. أخذت ورقة وقلما من مكتبتي، نظرت إلى بياضها، هي الأخرى لا يوجد بها ما يحرك أحاسيسي تجاهها، وبلا شعور مسكت قلمي بأصابعي الخمسة بقوة، وأخذت أخط بسرعة فائقة دوائر لولبية حتى امتلأت الورقة البيضاء بالخطوط، شعرت عندها بتفريغ طاقة محبوسة، أحسست على أثرها بارتياح شديد، لقد مزقت هذا الصمت والرتابة، وخططت عليه ما أريد، ولكن هناك ما نغص علي نشوتي، واتلف ورقتي، إنها نقطة حبر سقطت فوق خطوطي.
هكذا بلا سابق إنذار، كان لنا موعد مع الرحيل، حملت ثيابي وسط الذهول، ليس من عادتي البكاء حتى في أحلك الظروف، ولكن سقوط الدمعة على خدي، معنى ذلك أن زمام الصبر عندي قد خرج عن سيطرتي، ولم أعد أنا.. هي أنا.. فلم أعتد في حياتي أن أرى نفسي في موقف ضعف مهما كان حجم المأساة التي أمامي، والدموع بالنسبة لي ضعف وانكسار، إذن كيف لي أن أودعهم؟.. كيف أتصور يومي يمر دون أن يحيطوني بحنانهم؟.. كيف أقول لهم إن دمعة فلتت من مقلتي، وغرقت بها حزنا؟.. نعم غادرتهم وغادروني بلا موعد، ولكن هناك كلمة لابد أن أكتبها لهم، ترتج حروفي من معناها، وتتفاعل معها شجوني، حاولت بشتى الطرق أن ألملمها، لكن قلمي تعثر فجأة من بين يدي، لم يكن ذلك أيضا في الحسبان، صرخت عندها سحقا لهذا الرحيل المباغت، لكنها نقطة حبر متعمدة، غافلتني فسقطت فوق ورقتي، هل من يقف متحديا أمام أمواج محيط هائجة، يعجز أن يمسح نقطة حبر متعجرفة؟
ما الذي انتظره في هذه الحياة من مفاجآت جديدة، إبداعات مختلفة عظيمة، خطوات جدية جريئة؟
لماذا أرغب فيمن حولي أن يفكروا بشكل مختلف، أن يطبقوا برامج متميزة في رؤيتها وأهدافها، شيء جديد لم نحتفل من قبل بولادته، لماذا أطلب من غيري ألا يسير بنفس الطريق الذي اعتاد أن يسير عليه الناس، لماذا لا نخط لنا طريقا آخر مغايرا، مختلفا أو معاكسا في اتجاهه، لم لا؟
لماذا.. انتظر كل ذلك؟ وإلى متى؟ هل أنا ممن يسبق الأحداث والأزمان ويستعجل في قطف الثمار قبل نضوجها؟.. أم للحياة معنى آخر ومتعة أخرى وحقيقة غائبة عني؟ إني اعتقد ذلك، فلماذا إذن أرقتني نقطة الحبر رغم صغرها، أمام خطوطي المتعرجة في عنفوانها؟