أنوارعبدالرحمن
كم حاجة في نفوسنا لم نقضيها، كم أحلام في صحونا لم نحققها، النفس تهرب بعض الأحيان من نفسها ومن ذاتها، وكأنها تريد أن تتحول إلى ذات أخرى، لتتحرر من أسر لا تعرف سره، ولا تجد مفاتيحه التي تكون في كثير من الأحيان أمامنا ولكن لا نراها بأعيننا!
أبواب مغلقة لا تفتح، وأصوات لا تجد لها آذانا تسمع، الكل يهرول إلى طريق لا يعرف ما نهايته، فيصل من يصل، ويتأخر من يتأخر، ولكن في النهاية لا يدرك احدنا سوى ما كتب له في اللوح المحفوظ.
هكذا.. قد تجرفنا الأحزان إلى بحر متلاطم فنغرق بخذلاننا أو بيأسنا، وقد تأكل الهموم من قلوبنا وتأخذ من أعمارنا، لنصحو على غفلة الشيب وتجاعيد الزمان، ونحن نبحث ونبحث عن ذلك الشيء الذي سيعوضنا ما فقدناه، ويعيد زراعة ما ذبل ومات في أرواحنا، وينشر ألوان الطيف فوق سمائنا.. إنها الرغبة في الحياة، والنهوض ولو على أنقاض الماضي وجراحاته، سبحان الله، ذلك هو الإنسان الذي تدرب على السباحة والغوص في المحيط الكبير ليتحدى لغز البحر وسطوته، وتعلم الطيران لينطلق للفضاء ويخرج من حدود الكرة الأرضية.
يا له من أمل، يرفع عنقه ولو بضعفه ليطل علينا من بين الألم، ويا له من نور يتسلل في عتمة الليل ليؤكد وجوده، بين غيوم مكتنزة بالهموم.. فيا إلهي إني أعلم أن الأمل بك لا بسواك، نعم بك لا بسواك.
نظن في بعض الأحيان أن الحجم الذي يرانا عليه الناس، إنما هو من رؤيتهم الخاصة نحونا، ولكن في الحقيقة هي من حجم نظرتنا إلى أنفسنا، فنحن من نضع هذا الميزان وهذا التقدير لشخصيتنا، فحينما نتعامل مع غيرنا بلطف واحترام حتما سيعاملنا الآخرون على هذا الأساس، وإن كان العكس فلن تجد أحدا حتى من هم دون المستوى يعطيك قدر نفسك، فالكبير ينظر دائما للأعلى ويتواضع للناس، والصغير من لا يتعدى مستوى نظره خطوات رجليه، ويظن انه فوق العالمين، وهذا ما وجدته في الحكمة التي سمعتها في أحد الأيام، وتفكرت في حقيقتها وكانت كالصوت الخافت الذي يتردد على ذاكرتي دائما، ويعطيني دفعة من الأمل في الحياة، حقا كما قيل «أنت في الحجم الذي ترى به نفسك» إذن أيها القراء الأعزاء فلنختر الحجم الذي نريد أن يرانا عليه الناس ويرسخ في أذهانهم ولو بمرور عابر على محطة من محطات الحياة.
كان يتنقل بخفة وهو يلقي محاضرته، فقال لنا ممازحا: هل تعلمون كم هو عمري الحقيقي؟ فلم يجب عليه أحد من الحضور، فأجاب عن سؤاله «أنا عمري الآن خمسون سنة، ولكنني لا أشعر بذلك فأنا أرى نفسي لم أتعد الخمسة والعشرين عاما»، وبعد نهاية المحاضرة علقت إحدى الأخوات على ما قاله المحاضر، وقالت لنا «لقد ثبت علميا أن الإنسان له ثلاثة أعمار، الأول الذي يسجل في الورقة الميلادية، والثاني الذي يقدره لك الناس، والثالث الذي تشعر به وتعيشه في داخلك» ثم أردفت قائلة، وغالبا الذي تشعر به هو ما يقدره عليك الآخرون، وهو في الحقيقة عمرك الصحيح وليس المسجل في ورقة الميلاد، وعندما بحثت في هذا الأمر وجدت أن كثيرا من الأبحاث في دول كثيرة وعلى رأسها أميركا قامت على ذلك، بل بدأت تتخذه كإجراء في أماكن عديدة، يعني ذلك ان ما قاله المحاضر عن نفسه صحيح وليس مزحة، للإنسان عمر آخر وهو الحقيقي الذي يعيشه ويراه عليه الآخرون، وإذا نظرنا بنظرة المتفحص لوجدنا أن كثيرا من الناس الذين نلتقي بهم قد نعطيهم سنا أكبر من سنهم أو أصغر، ونفاجأ بعمرهم (الميلادي) وقد لا نصدقه، فإذن أيها القارئ العزيز أقول لك أيضا هنا «أنت بالعمر الذي ترى به نفسك»، فاختر العمر الذي تريد أن تعيشه ويراك عليه الآخرون.